د. محمد ويلالي يكتب: عن أية حرية يتحدثون؟
هوية بريس – د. محمد ويلالي
إن المتأمل في أحوال الناس -اليوم- ليروعه ما صار عليه أمر كثير منهم من قلب للموازين، وانتكاس للفطر، وركوب للضلالات، التي أصبحت عندهم هدى، وانتهاج لدروب الباطل، الذي صار عندهم عين الحق، وامتشاق نواصي الشهوات، التي استحالت مطالب مشروعة، وحاجات نفسية واجتماعية، واعتلاء صهوات الشبهات، التي غدت أسلحة تغزو الأفكار والمعتقدات. يتفاخرون بفعل المنكرات، ويتنافسون في اقتراف الموبقات. لا يخجلون من أحد، ولا يستحيون من الواحد الأحد. بل وجدوا في بعض البلاد الغربية قوانين تحميهم، وإعلانات دولية تؤازرهم وتؤويهم، بل وتجعل لهم الجوائز المحفزة على ضلالهم، وتشرع لهم الأيام العالمية، التي تحيي ذكراهم، وترفع أقدارهم.
من ذلك ما يسمونه “اليوم العالمي للحرية”، الذي يوافق التاسع من نونبر من كل سنة، حيث ترفع شعارات التمرد على الفضيلة، وتشرع الأبواب أمام الأفكار المتفلتة، والمعتقدات الزائغة، والتصرفات الهوجاء الشاذة، التي يترفع عن سلوك مفاوزها العقول السليمة، وتتبرأ من ركوبها الفطر القويمة، وتمجها النفوس المستقيمة. بل إن بعضها تستنكف منه الحيوانات العجماوات، وتأنف من سلوكه البهائم البكماوات.
ومن منطلق الحرية المتفلة، التي لا تقيد عندهم بشرع أو عقل، أباحوا للإنسان كل شيء تمليه عليه نفسه، وأن يرتكب كل ما يدفعه إليه شيطانه، بشرط أن يقتصر أذاه على نفسه، وأن لا يتعدى شره إلى غيره.وكأن الذي ينطق بكلام الكفر أمام الموحدين العابدين لا يؤذيهم، وكأن الذي يشرب الخمر في قارعة الطريق لا يستفز المسلمين الآمنين المطمئنين، وكأن الذي يزني لا ينتقل ضرره إلى غيره، وكأن الذي يطعن في المقدسات، ويهدم صرح الحرمات، ويهتك جدار المعتقدات، لا يشجع على نشر المنكرات، ولا يدعوـ بسلوكه ـ إلى التمرد على الأفراد والمجتمعات.
إنها الفوضى التي تدمر أسس الأخلاق، والفتنة التي تقوض أركان المجتمعات، والعبثية التي تثور على السلوكيات الجميلة، وتنقض على المبادئ الرفيعة. تتعطل النصيحة، لانتفاء سلطة أحد على أحد في الفكر والوجدان، ولو تعلق الأمر بنصيحة الأب أو المعلم. ويتعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن المعروف صار منكرا، والمنكر صار معروفا، فبأي معروف ستأمر، وعن أي منكر ستنهى؟ وكل ذلك بتقنين دولي، وتشريع بشري عالمي.
جاء في المادة الثامنة عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: “لكلِّ شخص حقٌّ في حرِّية الفكر، والوجدان، والدِّين.ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في تغيير دينه، أو معتقده، وحرِّيتَه في إظهار دينه أو معتقده بالتعبُّد، وإقامة الشعائر، والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة”.
فلو جاءنا بوذي، أو سيخي، أو مجوسي، فأخذ بممارسة طقوسه أمام الملإ، ونشر عبادته بين الشباب والأطفال، فلنَدَعه وشأنه، فإنه حر في فكره، وعقيدته، بل وفي الدعوة إلى أباطيله، ونشر ترهاته.وربما رموا الدعوة إلى الله، بالتخلف والرجعية، ونعتوا من قال: “إنني من المسلمين”بالتزمت والظلامية، ورب الأرض والسماء يقول: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
وتنص المادة التاسعة عشرة من هذا الإعلان، على إطلاق العنان للسان، يعبر كيف شاء، ويلهج بما شاء، ويشتم بما شاء، ويطعن في من يشاء. بل تبيح له حريته في التعبير أن يسب الأنبياء والمرسلين، وأن يناقش كلام رب العالمين، وأن يتعالى على معتقدات المسلمين، فيروغ عليها بالهدم والتخريب، ويرميها بالتطرف والترهيب. يسفهون أحلامنا، ويستهزئون بثوابتنا ومبادئنا، ويذمون أَعلامنا وقدواتنا ورموزنا، ويشككون في مصادر تشريعنا، ويشجعون على التمرد والتفلت شَبَابَنا، ويفسدون العلاقة بين أفراد أسرنا. تقول هذه المادة: “لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير. ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة، ودونما اعتبار للحدود”.
إنه كلام منبثق عن عقيدة لا تؤمن بالله واليوم الآخر. عقيدة تجعل غاية الحياة أن تمد الإنسان بلذاتها ومتعها، أن يحيى فيها بطريقته هو، لا بضوابط تعلمه مغزى خلقه، وسبب وجوده. عقيدة تؤمن بعالم الشهادة، وتطرح كل شيء يسمى غيبا.
يقول أحد دعاتهم يدعى “برتراند راسل”: “إن الحرية بشكل عام، يجب أن تُعرف على أنها غياب الحواجز أمام تحقيق الرغبات”.فما نؤمن به -نحن المسلمين- من الجنة والنار، والبعث والجزاء، ونعيم القبر وعذابه، وصراط وحساب.. كل ذلك من الحواجز التي تعوق دون تحقيق رغبات الإنسان.
ويرى “مونتسكيو” أن الحرية هي: “عدم الانصياع لغير الذات”.
ويقرر “جون ستيوارت ميل” أن “لا مجال لأي تقدم حضاري، ما لم يُترك الناس أحرارًا كما يحلو لهم، وبالأسلوب الذي يناسبهم”.
ويقول آخر يدعى “لامونت”: “إن الإنسان لا يحيى إلا حياة واحدة، ولا يحتاج إلى ضمان أو دِعامة من مصادر عالية على الطبيعة.. فلا جدوى من بحثنا في غيرها عن السعادة وتحقيق الذات؛ إذ ليس ثمة مكان غيرها نقصده. ولا بد لنا نحن البشر من أن نجد مصيرنا وأرضنا الموعودة في عالمنا هذا الذي نعيش فيه، وإلا فلن نجدهما على الإطلاق”.
هكذا تؤمن عقولهم القاصرة بالمادة، ولا شيء غير المادة. وربنا ـ عز وجل ـ الذي أكرمنا بالعقول السليمة، وأيدها بالفطر المستقيمة، ينبهنا إلى خطورة هذه الحرية الفكرية، ويحذرنا من مغبة هذه النفوس السقيمة، ويقول: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ).
ولا نغتر بكون أصحاب هذه التوجهات من المفكرين الكبار، والفلاسفة العظام، فإن العقل إن لم يكن له سياج من علم صحيح ضل، والعالم إن لم يسائل فطرته، ليتعرف ربه، وسبب خلقه زل. وهل أهلك أرباب الأقوام السابقة إلا فساد الفكر، وظلام القلب؟ قال ـ تعالى ـ: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَّكَّرُونَ).قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: “الْهَوَى: إِلَهٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ”.
ومن يَكُ ذا فمٍ مرٍ مـريضٍ * يجـدْ مـراً به المـاءَ الـزلالا
إن هواهم هو الذي زين لهم سوء عملهم، فاستحلوا تغيير خلق الله، وجعلوا من وجوههم صورا للجن والشياطين، واعتبروا ذلك حرية.
وخرجوا علينا بأنواع من الألبسة الفاضحة، جعلت المرقع جمالا، والممزق زينة، والمتسخ طهارة، والأوشام على الأجساد ذوقا، والحلاقة النافرة الشوهاء مباهاة، وتشبه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال تحديا. واعتبروا ذلك حرية. بل سموا الجنسين نوعين، لهدم جميع الفوارق الأخلاقية والجنسية بينهما، حتى أباحوا للنساء إمكانية التحول إلى رجال بالاسترجال، وللرجال إمكانية التحول إلى نساء بالاستئناث. بل بلغ بهم تمردهم على الفطرة، وطاعتهم للشيطان في تغيير خلق الله، إلى درجة العمل على زرع الرحم في بطن الرجل ليحمل ويلد. (وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ).
وجعلوا الاختلاط من مستلزمات الحياة المعاصرة، وشرعوا لهم أن يسبحوا في الشواطئ عرايا مختلطين، وجعلوا لهم حمامات ودورا للتدليك مختلطة، بل صار بعضهم ينزو على بعض في الطرقات وأمام مرأى الناس، ولا أحد يتمعر وجهه لما يرى.
وانتكست فطرتهم، فزوجوا الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، وسموه زواجا مثليا، وجعلوه حقا من الحقوق، تسيغه عقولهم، وتقضي به محاكمهم، وتجرم من ينتقدهم. ونعوذ بالله من الحور بعد الكور.
وحتى العلاقة بين الرجل والمرأة، لا حاجة إلى أن يربطها عقد زواج إلا إذا رغب الطرفان في ذلك. وقد يتم هذا العقد بعد ولادة الأولاد، كما يفعله بعض المشاهير اليوم.
فكان طبعيا أن يكثر فيهم التبني، وينتشر ما يسمى بتأجير الأرحام، ويباع ماء الرجال، ويفشو ولد الزنا، وما يستتبع ذلك من فضائح جنسية، وكوارث أخلاقية.
فلنحذر من التطبيع مع هذا التردي الأخلاقي المقيت، ولنتنبه إلى هذا الاستدراج التحرري المميت، كما حذرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم من قبل فقال: “لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لاَتَّبَعْتُمُوهُمْ” متفق عليه.
وليحذر التابعون المنبهرون من الترويج لما يغضب ربهم، ويعارض دينهم. وليتوبوا إلى الله، ولا يخاصموا في الباطل. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ الله حَتَّى يَنْزِعَ عَنْهُ” صحيح سنن أبي داود.
ومن كان ذا عقل أُجلَّ لعقله * وأفضل عقلٍ عقلُ مَن يتدينُ