كيف تكون مفكرا في سبعة أيام وبدون معلم
هوية بريس – إسماعيل حريري
موضة الفكر الجديد..
لم يزل العقل البشري مفكرا منذ فجر التاريخ، ولم ينفك إنسان عاقل قط عن جنس التفكير، ممتطيا صهوة الجزئيات ومستشرفا لكلياتها تارة، أو غواصا في الكليات مفككا لجزئياتها تارة أخرى، وسواء صح الانتقال من هذا إلى ذاك أم لم يصح فتلك قضية أخرى محلها أسفار المنطق ومناهج البحث ودواوين الاستدلال، والتي عنيت بتقرير هذه القواعد وسبرها، وتمهيد السبل في ذلك وزبرها، ويتعذر على الإنسان أن يفكر بدون قواعد أو ضوابط مطلقا، ولهذا تجد من يحاول هتك هذه الضوابط وفض تلك القواعد يخرج به فكره إلى نوع من الاضطراب والفوضى، ويغرق في ضرب من الشك والحيرة، وفرق كبير جدا ـ ويا فرق ما بين السماوات والأرض!! ـ بين الشك المنهجي الديكارتي الذي ينتج وبين منهج الشك اللاأدري العقيم، ومنهج الشك بإجماع كل من يعتد به في جملة العقلاء ليس بعلم ولا يبني معرفة.
فإذا عرفت هذا علمت ضرورة ولا بد أن من أكبر نعم الله على عباده أن جعل لهم أوائل حسية يرجعون إليها، ومبادئ عقلية يفزعون نحوها، فيؤسسون بذلك عليها علومهم ومعارفهم، ويحاكمون إليها كل ما يرد عليهم من أفكار وفلسفات ونظريات، فيقبلون الأصيل وينفون الدخيل، ويتوقفون فيما لم يعلم فيه وجه الحق دون إجحاف أو ميل.
لكن أين الإشكال؟
إن المتتبع الحصيف لما يدب في مواقع التواصل الاجتماعي بصفة عامة، والمراقب الدقيق ل”موضة” الأفكار التي تجتاح الأوساط الشبابية بصفة خاصة، بل حتى أواخر المطبوعات الفكرية في المجال الثقافي التداولي بصفة أخص يرصد تنامي خطاب فكري معين له أصول ومعالم محددة، التي وإن اختلف مظهرها وتشعب فرعها ائتلف جوهرها واتحد أصلها.
فالذي وقفت عليه من ذلك أن هناك أسماء تلمع سريعا ويبز قرنها.. ثم ما تلبث أن تنطفئ جذوتها سريعا ويأفل نجمها، وأن هناك خيطا ناظما لأفكار هؤلاء سواء على مستوى المضمون نفسه، أو على مستوى طريقة الطرح، لا يتم التنصيص عليه بصراحة، لكن يمكن وضع اليد على المفاصل الأساسية له بالاستقراء والتتبع كما يقول الشاطبي في الموافقات: ويجري مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات. اهـ
فأما المضمون؛ فهو التمرد على المسلمات عامة والدينية خاصة، ونرجئ الكلام في هذا لاحقا في مقال مستقل، وأما طريقة الطرح فهي التي تهمنا هنا فنتعرض لها بتلخيص غير ممل، واختصار غير مخل.
إذا تقرر أن صناعة المفكر الإسلامي لا يستقيم صلبها ولا يستوي عودها ولا تكتمل آلتها ولا تستجمع أدواتها إلا بدراسة وإتقان وإحكام مثلث الفلسفة (لصناعة المفاهيم والنماذج وتصور المذاهب الفكرية) والكلام (لرد الشبه الفلسفية والكلامية الموجهة للإسلام) والفقه (لتكييف ممارسات الناس المجتمعية من تدين وأدب وفن وسياسة الخ… ثم إصلاحها بما يقتضيه المنهج)، كما تراه متحققا بجدارة بل وفرادة في نموذج المفكر والفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، فإن ملامح الخطاب الفكري الذي نرصد انتشاره ورواجه لا يمر هو الآخر إلا عبر وصفة سحرية مكونة من مثلث كذلك (صدفة)؛ المعارضة والغموض والنسبية، فمتى ما جمعت بين هذه المكونات ضمنت لأفكارك الانتشار ولنفسك الاشتهار، فإليك الوصفة السحرية!!
أولا: كن معارضا..
نعم كن معارضا، فكما قيل :خالف تعرف، لا تلتفت لمن يصك وجهك بكلام السراج البلقيني وغيره: إن الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض. بل عارض السائد والمألوف، وابدأ بالمسلمات والمحكمات الدينية وانقدها أو انقضها، فالقرآن حمال أوجه، والسنة جلها آحاد وأخبار الآحاد لا تفيد إلا الظن، والإجماع وأي إجماع؟ من ادعاه فقد كذب، والقياس فعل المجتهد والأقيسة تتعارض والحق ليس كذلك، وآراء السلف ليست حجة على أحد فضلا أن تكون حجة في دين الله فهم رجال ونحن رجال!! ولم يبق إلا المصلحة فتعين اتباعها بالقطع وإن خالفت النص فالتأويل موجود!! ثم لا تنس أن تهاجم الفقهاء بشراسة وضراوة، فهم قوم متبلدون متكلسون ضيقو الأفق والعطن لا يرفعون أعينهم عن الطروس المعكمة والقراطيس المظلمة من المتون والشروحات والحواشي والتقريرات، ولا يفتون إلا بالتقليد كما قال اللقاني: نحن خليلون إن ضل خليل ضللنا!! ولا يعملون المنهج المقاصدي في فهم الدين لأن أحكام الدين لا يراد منها ظاهرها بل المطلوب هو المقصد والغرض منها، فإن تحقق المقصد بأي وسيلة فذاك وإلا فلا، والحكم يدور مع علته وجودا وعدما، وتتبع الأحكام الجزئية لتقصفها بالعمومات والإطلاقات، وناصب التراث العداء، وانفض الغبار عن الفرق المبتدعة ثم التقط إحدى شخصياتها الإشكالية وقرظها ونوه بها ساخطا على من أقصاها علميا ونفاها فكريا من المتشرعة في القديم والجديد، فإن ارتفعت درجة بعد ذلك: فلن تجد خيرا من قول فقهي شاذ تقتنصه من الكتب الصفراء وتعيد بعثه وإحياءه!! وإن خفت بريقك = فعليك بفتوى نارية تلهب الرأي العام ليبقى مشدودا إليك ولا عليك.
ثانيا..
كن نسبيا، فلا يمكننا القطع بشيء، لا يقين ولا مقدس!! ولا معايير ثابتة ولا أسس معرفية للمحاكمة ولا أصول مطردة ولا قواعد ممهدة، فاليقين نسبي، والنسبي يقيني، فيا تبا للعقيدة فإنها أيديولوجيا!! ويا سحقا للفقه والفتيا فإنهما وصاية فكرية ولوثة كهنوتية!! ويا قبح اليقين فإنه كسل معرفي وسذاجة!! ويا شر الإيمان فإنه دوغمائية!! ومن ادعى الفهم فهو غير فاهم، ومن زعم الحقيقة المطلقة فهو واهم، وحيهلا بالفوضى الفكرية والشك واللاأدرية، ولا مرحبا بالعقلانية المنظمة المنطقية!!
ثالثا.. كن غامضا..
وإن كانت اللغة قد وضعت للبيان والإفهام وليس للإلغاز والتعمية، وإن كان تحري الحوشي والغريب والمعقد من اللغة والأساليب قد يدل على خلل نفسي = فليس مهما!! …كن غامضا، فكل قادم قريب، وكل مجهول رهيب، وكل غامض غريب، والغرابة مظنة التفرد، والتفرد أمارة العبقرية وأنت كذلك، فلتكتب بأعقد الأساليب وأعوصها على القراءة والفهم والتحليل بحيث لو طولبت أنت نفسك بشرح كلامك ما استطعت!! قل أيديولوجيا ولا تقل فكرانية، قل سوسيولوجيا ولا تقل اجتماع، وقل الإستطيقا لا تقل الجمال، وقل الهرمنوطيقا وإياك أن تقول الفهم، فكلما استغلقت لغتك واستعجمت على عامة الناس = كلما كان طرحك شديد الإحكام عميق الغور، وإياك أن تنتسب لفرقة أو تتبنى مذهبا أو تنتمي لطائفة فتقع في فخ الإلزامات والإيرادات!! بل انتقد كل الفرق والطوائف والمذاهب بدون استثناء، إذ ليس الحق محصورا في أحدها، والحق كما تقرر نسبي يتعذر الإحاطة به والوقوف عليه..
فهذه هي الوصفة السحرية التي تضمن لك الشهرة من أقصر طريق وأخصره، تمثل ملامح الخطاب الفكري المعاصر الذي انتشر في الشباب انتشار النار في الهشيم، فأمعن الفكر فيما تمتد إليه يدك، وأجل النظر فيما يرتد إليه طرفك، ولم نقصد في ذلك الاستيعاب والإيعاب، وما لا يدرك كله لا يترك كله أو جله، وجسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق، وأن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، والله تعالى أعلى وأعلم، ونسبة العلم إليه أحكم.