العلمانيون.. تطرف باسم الحرية والحداثة
ذ. نبيل غزال
هوية بريس – الخميس 18 يونيو 2015
ما نعيشه اليوم من تدافع وصراع بين من يسمون بالمحافظين وغير المحافظين عموما هو صراع قديم جديد؛ صراع لا يتقيد بحدود جغرافية؛ ولا بفوارق زمنية؛ صراع يشتد ويحتدم في بيئات مختلفة ومجتمعات شتى؛ وعقائد متباينة..
وارتفاع حدة هذا الصراع اليوم في المغرب حول العديد من القضايا العقدية والسلوكية والتشريعية هو بالأساس صراع مرجعية؛ بين غالبية تريد العيش وفق أحكام دينها (عقيدة وشريعة)؛ وأقلية تمارس الإكراه والاضطهاد على الأغلبية؛ باستفادتها من دعم كبير من مؤسسات وجهات أجنبية، وتحكمها في جل وسائل التأثير والتوجيه للرأي العام.
فما أثير مؤخرا حول عروض جنسية وإشهار للواط شهدهما مهرجان موازين؛ وتم نقلها مباشرة على أمواج القناة الثانية 2M وميدي1 تيفي، وقُبل حارة بين سحاقيتين من حركة “فيمن” المتطرفة داخل مسجد حسان التاريخي بالرباط، وفيلم “الزين اللي فيك” لمخرجه نبيل عيوش الذي أساء لسمعة المغرب والمرأة المغربية، وما طالب به “وكالين رمضان” بالحق في الإفطار العلني خلال هذا الشهر المبارك..
كل هاته الأحداث أزعجت الرأي العام الوطني برمته، وجعلت الشارع يتحرك بطريقة عفوية، ويعبر بمختلف الوسائل المتاحة عن رفضه لهذا الاستفزاز الذي اعتبره مخالفة صريحة للدين؛ وعودة لمجتمع الجاهلية بالتخفي وراء شعار الحرية.
فلا يمكننا على الإطلاق من الوجهة الشرعية تبرير أو إيجاد مسوغ للعري، أو الزنا، أو اللواط، أو الإفطار العلني في رمضان.. فهذه كبائر متفق عليها ومحسوم في أمرها، وأحكامها تستند إلى نصوص متواترة قطعية، وكل من يَسِمُ من شَجَبَ هذه السلوكات المنحرفة بالتطرف والغلو؛ فهو يضع نفسه في موقف حرج؛ ويكشف للعامة -كما الخاصة- أن مشكلته لا تكمن في نبذ التطرف والغلو بقدر ما تكمن في موقف معين من الإسلام (عقيدة وشريعة).
فلم يعد أحد اليوم ينتظر من كثير من الأحزاب والجمعيات الحقوقية نصرة الدين أو الدفاع عنه؛ لأن معظمها يقدس الحرية الفردية، ويتخذ من الميثاق العالمي لحقوق الإنسان الغربي مرجعية له؛ وفي حالة تعارض هذه المرجعية الغربية مع المرجعية الإسلامية فإنه يتم الانتصار لمرجعية أصحاب العيون الزرقاء والتاريخ الدموي الحافل بالإبادات الجماعية والقتل والتدمير.
لكنه وفي عصر الانفتاح الإعلامي ومواقع التواصل الاجتماعي؛ بات بوسع الأغلبية الصامتة المضطهدة التعبير عن موقفها، والخروج عن صمتها، وعدم السماح لأي كان بالحديث باسمها والتعبير عن موقفها.
وبناء عليه صار من السهل جدا إدراك البون الشاسع بين مكونات الأحزاب والجمعيات الحقوقية ذات المرجعية العلمانية من جهة؛ وبين باقي مكونات المجتمع الأخرى التي لازالت متمسكة بهويتها وانتمائها ودينها من جهة أخرى.
حيث لم يعد من يسمون -بين قوسين كبيرين- بالإسلاميين هم وحدهم المدافعين عن الأخلاق والحياء والعفة والهوية والدين، إذ كشفت محطات عديدة أن المجتمع المغربي يدافع عن نفسه، ويحاول أن يلفظ الخبث عن جسده وكيانه، ويجعل المبشرين بالعلمانية يعيشون في جزر منعزلة عنه، ومن خطاباتهم صرخة في واد وباعثا على التندر والسخرية.
صحيح أن حال ذوي المرجعية العلمانية من المدافعين عن مهرجان موازين والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج والمثلية.. وغيرها من المطالب الشاذة؛ يوحي مظهرا أنهم حداثيون تقدميون؛ لكنهم في حقيقة أمرهم ماضويون رجعيون معيشة وسلوكا، يسعون إلى تحرير البشر من عبودية الدين -زعموا-، في حين أنهم يتعاملون مع فكرتي الحداثة والحرية كديانة حديثة يدينون بها، قد عصموا أصنامهم وأفكارهم، وأقاموا معهم علاقات لاهوتية تقوم على العبادة والتقديس.
لذا فالإنسان انطلاقا من العقيدة اللادينية لا أقول ينبغي؛ بل يجب ويتعين أن يُمتع بحريته المطلقة، ولا يقيد بوصايا أو أوامر سواء من رب أو سلطة معنوية أو أخلاقية، وهو مفهوم خاطئ مموِّه لمعنى الحرية، لأن الحريات لا تقاس كمِّيا، وإلا لكان أحسن النظم هو الذي يترك الناس سدى لا يأمر أحدهم بشيء ولا ينهاه عن شيء، ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى)!
فالحريات إنما تقاس بمدى نفعها وضررها، ونحن نرى الغرب اليوم كيف يعمل على تقليص الحريات الفردية، ويسعى جاهدا إلى إصدار قوانين تمنع الحجاب والنقاب، وتصادر بناء المآذن، وتبيح له التنصت على المكالمات الهاتفية الخاصة، وتركيز أجهزة السكانير في المطارات التي تظهر أدق خصوصيات الإنسان وأجهزته التناسلية، وكل ذلك لحماية أمنه الخاص، فالحريات الفردية مردها إلى ما يعود على الفرد والمجتمع بالنفع وما يدفع عنهما الضر أيضا، ولذا وصفت النواهي الشرعية حدودا فإذا تجاوزها الإنسان وقع فيما يضره.
لازلت أتذكر ما نقله أبو الحسن الندوي رحمه الله تعالى في كتابه المفيد “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين”؛ وهو يجسد واقعنا اليوم بتذكيرنا بما نقلته كتب التاريخ والحضارات القديمة من أن شدة الاعتداد بالحياة الدنيا والمبالغة في قيمتها؛ والولوع بالتماثيل والصور والغناء والموسيقى و”الفنون الجميلة”!؛ ولهج الأدباء والمؤلفين بالحرية الشخصية التي لا تعرف قيداً ولا تقف عند حد؛ أثـَّرت تأثيراً سيئاً في أخلاق المجتمعات الغابرة، فانتشرت الفوضى في مجال الأخلاق وحدثت ثورة على كل نظام، وأصبح -في اليونان مثلا -شعار الرجل الجمهوري -كناية عن العلماني أو الحداثي اليوم!- الجري وراء الشهوات العاجلة، وانتهاب المسرات، والتهام الحياة التهام الجائع النهم.
ويصف سقراط -كما ينقل عنه أفلاطون في كتابه المملكة- الرجل الجمهوري- فكأنما يصف ناقدا من نقاد هذا القرن في إحدى العواصم الغربية أو العربية.
فإذا قيل له: إن بعض المسرات من الرغبات التي هي طيبة وتستحق الاحترام؛ وبعضها من الشهوات التي هي قبيحة، وإن الأولى ينبغي أن يعمل بمقتضاها وتحترم؛ والأخرى مما ينبغي أن يمنع عنها ويقام عليها الحجر، لم يقبل هذا الرجل هذا القانون الصحيح ولا يسمح بسماعه. اهـ
إنها تجارب التاريخ والأمم تعاد وتكرَّر، والسعيد من وعظ بغيره واتخذ العبرة بمن مضى.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.