علمانية الأحزاب الإسلامية بين الظهور والتواري
محمد بوقنطار
هوية بريس – الجمعة 27 شتنبر 2013
عندما تكلمنا عن ملحظ التصويب المدبر بدعوى الالتقاء والاشتراك على غير صدفة في تسمي العديد من الأحزاب الإسلامية أو التي رفعت شعار الإسلام على أصح تعبير بمسميات لها نفس المبنى أو المعنى، فإننا كنا نعني ما نقول، ولا يقدح في هذا الطرح وجود من يرى من عابري السبيل في هذا الأمر على كونه أمر لا يتجاوز عتبة كون هذه الأحزاب كانت حرة في التسمي بما شاءت، ووجود من يرى في هذا الوقوف طويلا أمام ظاهر هذا التصويب أن فيه ما فيه من تحميل ظهر هذه الأحزاب الفتية التجربة ما لا تطيقه ظهور الكثير من البعير.
ما قال بعض الإخوة من الذين استدركوا على إشكالية ربط التصويب بالاشتراك اللفظي لمسميات هذه الأحزاب من قبيل العدالة ومعطوفات التنمية والحرية والمساواة، ومن تم نسفه لحقيقة جعل هذا الرباط في سياق التصويب وإكراهاته كدلالة لا تقبل النقاش في أن الإشارات الرمزية المقروءة من ظاهر هذا الترابط ولوازمه تذهب بعيدا في وجهة شرح حالة الانفكاك والطلاق البائن بينونة كبرى، والذي حصل بين هذه الأحزاب وهي تعتلي كراسي سياسة الناس وبين صراخها القديم بين مقدمات التأسيس وأيام المعارضة، صراخ الحاكمية وإسلامية الدولة وضجيج تطبيق الشريعة واختزال مشروع الإصلاح في شعار “الإسلام هو الحل”، هنا عند نقطة هذا المستدرك والاستدراك تطفو من العمق فكرة الإدراج الإجمالي للمشترك ليس اللفظي هذه المرة بل المشترك الفكري والفعلي للأحزاب الإسلامية الأخرى خارج جغرافية مغربنا العزيز.
ولنبدأ بادئ ذي بادئ بالحزب الإسلامي الذي قاد تركيا إلى نعيم الاستقرار السياسي والرخاء المادي لنقف منذ البداية على حقيقة أن الحزب قدم برنامجه على كونه حزبا سياسيا لا شأن له من قريب أو بعيد بالحمل الثقيل ونعني به قضية الشريعة ووزر تحكيمها، بل نجده قد تماهى مع الطرح العلماني الأتاتوركي شكلا و موضوعا، بل زاد على هذا وذلك من خلال لعبه على ورقة القومية وإذكاء روح الهوية الطورانية ولعله لعب وإذكاء يتوافق ويلتقي في تكامل وتجانس مع الإطار والتوجه العلماني الكمالي المقيت، وهكذا وبدء بالتسمية نجد أن الحزب في تعاطيه مع مفهوم العدالة قد كرس الشكل الأممي بتوصياته انطلاقا من طغيان مفاهيم حقوق الإنسان والحقوق المدنية في ثوبها الغربي وكذا تغليب القواعد الديموقراطية دون توجيه أو تصويب للنسخة الغربية طمعا في الالتحاق بكيان الاتحاد الأوربي، أما بالنسبة للشق الثاني من التسمية فنجد الحزب قد اتخذ برامج تنموية استجابت إلى حد ما للمطالب الشعبية لكنها برامج لا تتعارض مع الإطار الغربي ولا تقاطعه، ولن ننسى أن ننبه على ملمح إسلامية الحزب وذكر حدود هذا الملمح في وجدان “الكوادر” وأدبيات البرامج، والتي يمكن اختزالها في تفسير الاصطلاح الإسلامي تفسيرا لا يتجاوز ولا يتخطى حاجز المفاهيم الفضفاضة للقيم الإنسانية التي ربما نادت بها الثورة الفرنسية من عدل وحرية ومساواة.
ولننتقل بعد هذا السرد الوجيز إلى حالة حزب العدالة والحرية الإخواني لننبه مسبقا على أن طائره لم يغرد بعيدا عن سرب الحمام التركي، إذ بالرجوع إلى أدبيات التأسيس نكتشف وبعيدا عن الشعارات الورقية والشفاهية أنه حزب مدني بامتياز، وأن علاقة الحزب بالشريعة هي علاقة لا يمكن تسجيل حضورها خارج إطار المادتين الأولى والثانية من الدستور المصري، وللإشارة فقط فهي مواد وعند الوقوف على حدود مداها نعلم أنها نصوص محتوى مسطورها لا يعطي انطباعا على أن ثمة مطالب تنتصر حقيقة لرهان تطبيق الشريعة ولا أدل على هذا حضورها بغير تأثير في الدستور القديم أيام حكم المخلوع مبارك، اللهم إن كان الأمر مقتصرا على مجرد المطالبة بإطار إسلامي عام يرجع في عمومياته الفضفاضة أحيانا والضيقة أخرى بفعل التطويع والتطبيع إلى منطلقات مبادئ الشريعة ولعله أمر لا ينكره أحد، ويمكن قراءة هذه المسلمة على المثال لا الحصر في موافقة الحزب دون تسجيل أي اعتراض أو تحفظ على مضمون الوثيقة التي أصدرها الأزهر بموافقة جهات محسوبة على التيار اللبرالي والعلماني، وثيقة تؤسس وتقدس وتنحني لحقيقة وواقع مدنية الدولة وآلياتها وأدواتها الديموقراطية المستوردة كما وكيفا.
ونصل بعد هذا السرد الأوجز إلى حزب العدالة والمساواة التونسي لنجد أنه حزب يتوافق في الكثير من منطلقاته وتوجهاته ومقاصد تطلعاته مع الكثير من الأحزاب اللبرالية والعلمانية العاملة بشكل مؤثر في الساحة السياسية التونسية، ولعل التنصيص على هذا التوافق المخل لا يمنعنا من تسجيل فارق شكلي يمكن أن يعطي لهذا الحزب شيئا من التميز عن باقي الأحزاب الأخرى، ذاك هو فارق دندنة الحزب من خلال تأكيده على الهوية والمرجعية الإسلامية للتوانسة، وذلك طبعا بموازاة مع إيغاله بغير توجس في نظرته إلى مدنية الدولة التونسية مع تحاشي الاصطدام مع بقايا التركة العلمانية للهارب بن علي وزوجه الحالقة ليلى الطرابلسي.
هذا وبالرجوع إلى هذه الأحزاب والنظرة إليها بشيء من الشمول، وعلى اعتبار بعض سياستها وعلى رأسها الإبقاء على سياسة الاعتماد على قروض البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وما ينتج عن ذلك من تبعات “إلزامية اتباع” سنن من قبلنا من توجيهات وتوصيات مشمولة بالنفاذ المعجل، وكذلك الإبقاء على الأيدي مفتوحة بوازع المسألة والاستجداء أمام الوافدات المدخولة للمعونات الأجنبية، وإغفال حسنة ومزية التفكير في بدائل وفرص في واقع وحقيقة القدرات الإسلامية الهائلة في مجال الإحسان والتطوع، ونذكر هنا على سبيل الرمز والإشارة مبادرة ونجاح ما قام به الداعية محمد حسان من دعوة إلى التبرع استجابت لها شرائح المجتمع المصري أفقيا وعموديا بشكل كبير ولافت ومثير.
ولعله في الأخير رجوع يردنا بغير تحامل إلى الوقوف على قضية النسبة إلى الإسلام، إذ لا يخفى على أن الانتساب توقيفي يرجع فيه إلى الشروط والواجبات المنصوص عليها في هذا الباب، فهي وحدها الحاسمة في مسألة النسبة من عدمها، ولعل هذا التأصيل من شأنه أن يبقي الباب موصدا في وجه الذين يريدون إلصاق تهمة الكفر بسليمان عليه السلام بناء على ما تبث من كفر في فعال الشياطين، ولنقترب أكثر حتى نجلي الصورة لنقول أن فشل تجربة الحكومات الإسلامية في إدارة وسياسة أمور الناس لا يلزم منه ما يروج له بعض السفهاء من قبيل أن الفشل راجع إلى قصور في شريعة الإسلام وفي خطأ اقتحامها لسلطان ونفوذ ما هو من اختصاص قيصر على حد تعبير “عفاريت وتماسيح” الطرح العلماني الحائف الزائف، ومن قبيل إسقاط فشل تجربة الإقطاع الاشتراكي على تجربة حكم يوصف رجما بالغيب بأنه حكم إسلامي، ولعل المنصف المتجرد للحق يعلم الفارق الذي يحول دون إسقاط هذه على تلك، ويعلم كذلك أكان الحس الإسلامي حاضرا أم كان غائبا في برنامج الحزب الإسلامي كما تقرر سلفا.