مفهوم المواطنة وتطوره التاريخي من العصور اليونانية القديمة حتى تاريخنا المعاصر
إنَّ الناظر إلى تاريخ الفكر الفلسفي السياسي يدرك مدى التطورالذي لحق مفهوم المواطنة، فالمفهوم الذي بدأ خلال الحقبة اليونانية قبلالميلاد ليس هو نفسه الذي كان موجوداً في فترة العصور الوسطى، وكذلك يختلف عن ذلك الذي عرفته أوربا بعد الثورة الفرنسية، والذييختلف بدوره عن المفهوم المعاصر للمواطنة.
فالمواطنة ـ في كل حقبة تاريخية ـ إنما كانت تعبِّر عن التركيبة الثقافية والأخلاقية لتلك الحقبة، ومن ثم كانت المواطنة هي المؤشر على مدىتحقق المثل الأخلاقية والسياسية في زمانها، فالمواطن عند اليونان هو«اليوناني الحر»، بينما المواطن في زمن الدولة القومية هو أحد أبناءالأمة المكونة للدولة… إلخ فالمواطنة قديماً لم تكن تشير طوال الوقت إلىمبادئ وقيم أخلاقية وسياسية عامة ، وإنما كانت تعبر عن وضعيةخاصة يحوزها البعض، ويُحرم منها الاخرون، أي: أن المواطنة كانتحالة من عدم المساواة، يقابلها رغبة وكفاح من أجل المساواة من جانبأولئك الذين حُرموا منها، ومن هنا فإن تاريخ مبدأ المواطنة هو تاريخسعي الإنسان من أجل الإنصاف، والعدل، والمساواة.
ويرى الأستاذ حمدي مهران أن المواطنة قد مرت بست مراحل تاريخية،كونت ستة مفاهيم مختلفة كما يلي:
1 ـ مواطنة دولة المدينة:
وهو المفهوم الذي ساد في الحقبة اليونانية الرومانية، وقد تميز هذاالمفهوم بتركيزه على قيم المشاركة السياسية والمساواة بين المواطنينعلى قاعدة المواطنة، غير أن هذا المفهوم من ناحية أخرى لم يكن يشملبصفة المواطنة إلا الرجال الأحرار، بينما تم استبعاد العبيد والنساءوالأطفال وكذلك الأجانب عن المدينة؛ مما جعله لا يشمل إلا فئة قليلةممن يستحقون صفة المواطنة. إلا أن قيم المواطنة عند العديد منالفلاسفة بعد ذلك قد تأثرت بمفهوم المواطنة اليوناني القديم؛ نظراًلتشديده على أفكار المشاركة والمسؤولية على المواطنين، واهتمامهبالمساهمة في الحكم بصورة مباشرة، عبر مؤسسات تقوم على نشاطالمواطنين.
2 ـ مواطنة الإيمان:
وهو المفهوم الذي ساد في الحقبة الإسلامية والمسيحية في أوائل فترةالعصور الوسطى، حيث المواطن هو الفرد المنتمي للعقيدة السائدة فيالدولة. وتميز هذا المفهوم بعدم التزامه بحدود الدولة، وإنما كان ذاصفة عالمية بحيث يشمل كل من ينتمي إلى العقيدة السائدة في أيمكان.
وقد أعطى هذا المفهوم في صورته الإسلامية حقوقاً هامة للمرأة، إلاأن التطبيق العملي لتلك الحقوق على الأرض لم يكن بالمستوى نفسه،فظلت المرأة فعلياً في أغلب فترات التاريخ الإسلامي بعيدة عن العمليةالسياسية، أما صورة المفهوم المسيحي فلم تعط المرأة أي حقوق تذكرلا داخل الكنيسة ولا خارجها، واكتفى المفهوم بمنح الدعم المعنويوالروحي للعبيد دون الدعم المادي، فبقي العبيد في أسوأ حال في تلكالفترة، مع ما كان يُطلب منهم من قبول للعبودية بوصفها إرادة إلهية.
3 ـ مواطنة المدن المستقلة:
وهي التي سادت في المدن التجارية في جنوب أوربا وتحديداً فيإيطاليا – في فترة العصور الوسطى ـ حيث كانت تعني الحصول علىامتيازات مدفوعة الأجر، تمكن التجار من البيع، والشراء، والزواج،والطلاق، والسفر، وغيرها دون الحصول على إذن أو تصريح منالسيد الإقطاعي وفقاً للنظام الذي كان سائداً حينذاك، وقد منح هذاالمفهوم سكان المدن نوعاً من الحرية الفكرية والاقتصادية، ومكّنهم منتقديم رؤى نقدية للنظام الكنسي والإقطاعي، وظهور تيار فكرييرفض الأفكار الكلية للكنيسة، وينادي بالروح القومية، وقد عبر هذاالتيار عن آرائه في مؤلفات كان لها صدى واسع بعد ذلك في فترةعصر النهضة.
4 ـ المواطنة التعاقدية:
وهو المفهوم الذي ساد بدءاً من عصر النهضة، والذي كان يقوم علىفكرة العقد الاجتماعي؛ التي كانت رائجة في ذلك الحين، كما أن هذاالمفهوم قد ارتبط بفكرة الدولة القومية، والذي ظل مرتبطاً بها حتىظهور المفهوم الواضح للمواطنة بعد ذلك بأربعة قرون.
وقد تميز هذا المفهوم بدعمه غير المحدود لفكرة المواطن الإيجابي، حيثيتحول المواطن إلى حائز للسيادة وليس خاضعاً لها، ومن ثم يصبحقادراً على عزل الحكام الفاسدين، وتعيين غيرهم، ومحاسبتهم، وذلكوفقاً لأحكام العقد الاجتماعي، وقد ناهض هذا المفهوم العبوديةومبرراتها المختلفة، إلا أنه لم يقدم جديداً بالنسبة للمرأة؛ فقد ظلتبعيدة عن حقوق المواطنة.
5 ـ مواطنة الحقوق:
وهو المفهوم الذي ساد منذ منتصف القرن الثامن عشر، وارتبط بفكرةالحقوق التي تطورت من الحقوق الطبيعية إلى حقوق الإنسان، ثم إلىحقوق المواطنة، وباقي أنواع الحقوق، مثل: حقوق العمال، وحقوقالمرأة، وحقوق الطفل …. إلخ.
وقد تلقى هذا المفهوم دعماً قوياً من الثورة الفرنسية؛ التي تبنت فكرةحقوق المواطنة، وأصدرت: إعلان حقوق الإنسان والمواطن للتعبير عنالحقوق المدنية والقانونية لكل فرد داخل الجمهورية الفرنسية.
وقد تشبثت التيارات النسوية بهذا المفهوم للحصول على حقوقها، فكانخير داعم لها، كذلك فقد استغلت الحركات المناهضة للعبودية، أوالمدافعة عن حقوق العمل، هذا المفهوم لتحقيق أهدافها المشروعة، وقدتحول هذا المفهوم إلى فكرة الدعم المادي الذي تقدمه الدولة للمواطنتحت مظلة دولة الرفاهية، وذلك منذ منتصف القرن العشرين، غير أنهذا المفهوم قد ارتبط بفكرة الدولة القومية بصورة عجز معها عن حلالمشكلات العرقية، والثقافية.
6 ـ المواطنة العالمية:
هو المفهوم الذي يعبر عن صور المواطنة التي تتخطى الدولة القوميةالقطرية إلى حيز أوسع، أو حتى أضيق، وذلك بالانتماء لكياناتجديدة، وتفضيلها على الانتماء القومي.
وقد تأثر هذا النموذج العالمي للمواطنة بقوة بفكرة العولمة منذ ظهورها،خاصة وأن الاتحادات والتكتلات العالمية بدأت تزداد بشكل جعل هذاالمفهوم حقيقة واقعة، مع الدعوة لعالم مفتوح ومترابط اقتصادياً وثقافياًوسياسياً بالاعتماد على التكنولوجيا الحديثة، غير أن هذا المفهومالعالمي لا يزال غير قادر على اكتساب ثقة الغالبية من الناس؛ لما يبدوفيه من تهديد للهوية الثقافية، ومعارضته لمفهوم الدولة القومية بكل ماتحمله من تراث غال على العديد من الشعوب، ولعلّ ذلك ما جعله يواجهمواجهات من الرفض الشديد خوفاً من ضياع الهوية الثقافية؛ ممايعرقل مسيرة هذا المفهوم، وربما يقضي عليه في النهاية.
ويمكننا مما سبق أن نقول: إن مفهوم المواطنة عبر تاريخه قد كشفعن عدد من الحقائق التالية:
المصادر والمراجع: