أحمد القاري: التجربة الأيسلندية وأسطورة “لغة العلم” و”اللغة الأكثر انتشارا”
هوية بريس – أحمد القاري
الفكرة السائدة في بلداننا العربية هي أن الطب والشعب العلمية يستحسن أن تدرس بالإنجليزية أو الفرنسية بسبب ندرة المراجع العربية. وباستثناء سوريا فمعظم البلدان العربية سارت في هذا الاتجاه منذ الاستقلال.
هل هذا سلوك عالمي؟
أبدا! وخير مثال على ذلك هو الحالة الأيسلندية. فأيسلندا بلد يقع بكامله على جزيرة في شمال المحيط الأطلسي غير بعيد عن سواحل غرينلاند في واحدة من أكثر المناطق المأهولة برودة وأقلها كثافة سكانية.
عدد السكان لا يزيد على 300 ألف نسمة بكثير. ومع ذلك فكل المواد في الجامعة تدرس بالأيسلندية. نتحدث هنا إذن عن سكان يعادلون سكان حي في مدينة الدار البيضاء أو القاهرة.
تشرح جامعة ريكيافيك في عاصمة البلد، وهي الجامعة الرئيسية سياستها اللغوية على موقعها الرسمي. وهي سياسة تستجيب للتشريعات الصادرة عن البرلمان ولتوجيهات الجهات المتدخلة في التخطيط اللغوي:
– على الجامعة مسؤولية عظيمة في نشر وتطوير اللغة الأيسلندية والتأكد من أنها جاهزة للاستخدام ومستخدمة في كل مجالات المعرفة.
– الأيسلندية هي لغة التدريس والعمل والتواصل بالجامعة.
– لا يتم استخدام لغة أخرى للتدريس إلا في الحالات الضرورية.
– توفر الجامعة مراكز للكتابة لمساعدة الأساتذة على تحرير المقررات بلغة سليمة.
– يتم تشجيع المدرسين بالجامعة على التواصل مع الجمهور ونقل المعارف له بالأيسلندية.
– ينتظر من الطاقم الأجنبي المشتغل في الجامعة بشكل دائم أن يحسن الأيسلندية، ويتم توفير الشروط لذلك.
يتم نقل المصطلحات الجديدة من اللغات الأخرى للأيسلندية بشكل مستمر، حيث يقوم كل أستاذ باقتراح كلمات أيسلندية لترجمة الكلمات الجديدة الوافدة
ويمكن تسجيل الملاحظات التالية على السياسة اللغوية للجامعة الأيسلندية:
– الأستاذ الأجنبي يخضع للغة المحلية ولا يفرض لغته.
– الجامعة تقيد إمكانية استفادتها من الأساتذة الأجانب بالنظر لقلة من يتكلم الأيسلندية في العالم. ولكن ذلك يهون مقابل حماية اللغة المحلية.
– أسطورة “لغة العلم” و”اللغة الأكثر انتشارا” باطلة؛ لأنها لو كانت صحيحة لأصبحت أيسلندا في ذيل دول العالم في كل المؤشرات، والواقع أنها في رأس المؤشرات في جودة الحياة والخدمات والحكم عالميا.
يتخرج من كلية الطب في الجامعة أربعون طبيبا سنويا بالمعدل وهو عدد صغير مقارنة بكليات الطب عادة. ومع ذلك فهي توفر عددا كبيرا من التخصصات. ويلاحظ من قائمتها أن أكثر من 90 في المائة منها تدرس بالأيسلندية.
وعند مناقشة مسألة لغة التدريس في كلية الطب ينبهنا الطرف الأيسلندي إلى حقيقة مهمة وهي أن “الخدمات الصحية ستقدم بالأيسلندية”.
كيف يتم التعامل مع مشكلة المراجع؟
معظم المراجع في مواد الطب وغيره من الشعب العلمية تتوفر بالإنجليزية. وقد شرحت لي طالبة سبب ذلك “لا يمكننا ترجمة نسخ يتم تجديدها كل سنة. لذلك نستخدمها بأصلها الإنجليزي”. وتضيف “لكن النقاش في القسم والشرح من الأستاذ والعروض التقديمية التي يستعين بها تكون جميعا أيسلندية وكذلك الامتحانات”.
يلاحظ هنا أن التعامل مع المراجع يتم بطريقة نفعية. فكون المراجع في أغلبها بالإنجليزية لا يعني أبدا ضرورة الدراسة بهذه اللغة. كما أن المجال مفتوح للاستفادة من مراجع بلغات أخرى لمن يحسنها.
كيف يتم التعامل مع المصطلحات الجديدة؟
إن كلمات مثل ديمقراطية، أيديولوجيا، كمبيوتر، إبستيمولوجيا، التي دخلت العربية من باب واسع لم تتمكن من دخول الأيسلندية، برغم أنها كلمات أوروبية، بل تستخدم لها مقابلات محلية.
الاهتمام باللغة الأيسلندية واضح في كونها المادة الأولى في الدراسة الابتدائية والثانوية من حيث الوقت المخصص لها. ويكاد وقتها يكون ضعف الوقت المخصص للغات الأجنبية. وبما أن التلميذ يدرس الرياضيات والعلوم وغيرها بلغته الأم فإنه يصل الجامعة برصيد جيد يؤهله لاستمرار تلقيها بنفس اللغة.
يتم نقل المصطلحات الجديدة من اللغات الأخرى للأيسلندية بشكل مستمر. ويعتبر الأيسلنديون هذا الجهد مهمة جماعية، فإضافة إلى مجلس اللغة الأيسلندي وما يتبع له من مؤسسات ومجموعات بحث، يقوم كل أستاذ باقتراح كلمات أيسلندية لترجمة الكلمات الجديدة الوافدة. ويساهم الصحفيون والكتاب في ترجمة المصطلحات في مجال الصحافة والإعلام والأدب.
وتتسم الترجمة بتعقيد إضافي بالنظر لأن الأيسلندية لا تستعير الكلمات الأجنبية المعبرة عن المفاهيم الجديدة كما نفعل في العربية، بل تعمد إلى سك كلمات جديدة أو إعطاء كلمات قديمة معان مستحدثة، لحماية اللغة من التأثير الأجنبي.
مثلا كلمات ديمقراطية، أيديولوجيا، كمبيوتر، تلفزيون، إبستيمولوجيا، سيكولوجيا وعموم الكلمات المنتهية بـ “لوجيا” وبـ “طية” التي دخلت العربية من باب واسع لم تتمكن من دخول الأيسلندية، برغم أنها كلمات أوروبية، بل تستخدم لها مقابلات محلية.