عن ثقافة التسامح والتعايُش
هوية بريس – د.عبد العلي الودغيري
بدعوى نشر ثقافة التسامح والتعدد والتعايش، تُتخَذ بعض التدابير المتسرِّعة بطريقة مثيرة ومستفزّة لمشاعر الناس الذين لا يختلفون حول مبدإ التعايش السلمي وما ينبغي أن يسود من روح التسامح واحترام الآخر وتقبّلِه كما هو. ولكنهم يختلفون حول الطريقة الفِجّة التي تُنزَّل به الفكرةُ وتطبَّق على أرض الواقع. ولاسيما أننا نلاحظ أن أمر التعايُش والتسامح بين الديانات والثقافات، لا يُطلب في العادة إلا من المسلمين وحدهم ولا يطلب من مجتمعات أخرى، وكأن المسلمين هم الكارهون لغيرهم والرافضون للعيش مع مُخالفيهم في الثقافة والعقيدة، مع أن كل شواهد التاريخ القديم والحديث تثبت عكس ذلك. فالمجتمعات الإسلامية ظلت دائما على مر القرون مفتوحة في وجه كل أصحاب العقائد والمِلَل من كل صنف. وتاريخ المسلمين في المغرب والأندلس أقرب مثال على ذلك. والتاريخ أيضا يشهد على الاضطهاد الذي لقيه المسلمون في إسبانيا وإخراجهم منها بطريقة مُذِلّة مُخزِية لم تشهد لها الإنسانيةُ مثيلا في همجيتها ووحشيتها. حتى الاضطهاد النازي لليهود لم يدم إلا سنوات قليلة، بينما ظل اضطهاد المسلمين قرونا طويلة، ولاحَقوهم حتى خارج حدود إسبانيا، فاحتلوا شواطئ الشمال الإفريقي شمالاً وغربا ليقطعوا عليهم طريق العودة. واضطهاد المسلمين اليوم في عدد من الدول الأوروبية والآسيوية وعلى رأسها فرنسا، قلَّ من الحقوقيّين والتسامُحيّين والتعايُشيّن ومنتحِلي الصفة من يستنكره. أما إسرائيل التي تقف اليوم وراء دعوة المسلمين والعرب، بواسطة عملائها ووكلائها المندسّين في العالم العربي، إلى ثقافة التسامح والتعايش، فهي إسرائيل ذاتُها التي ترتكب أبشع الجرائم اليومية في حق البشرية على مرأى ومَسمع من العالَم (المتحضِّر) الذي لا يحرّك ساكِنًا ولا يَنبس ببنت شَفة. إنها تقوم بدور الثعلب الواعظ، الذي يريد من العالم كله أن يصدِّق ورَعَه وزهدَه، ويُغمض عيونه عن جرائمه اليومية، ويتعامل مع سجله الإجرامي بالتغاضي والتسامح.
هؤلاء الذي يطالبون المسلمين بمراجعة مناهجهم الدراسية لحذف كل ما لا يتلاءم منها مع ثقافة التعايش ونبذ الكراهية وما إلى ذلك من مفردات هذا القاموس المعروف، لا يجرؤون على مطالبة الأطراف الأخرى بالقيام بما يشبه هذا في مناهجهم الدراسية وفي وسائلهم الإعلامية. هل استطاعت دولة من الدول العربية أو الإسلامية ـ مثلا ـ أن تنظر، مجرد نظرة، في مناهج التعليم في دولة إسرائيل في ضوء هذا المعايير التي يطالب المسلمون باحترامها والامتثال لها؟
نحن من دعاة التعايُش والتسامح والتفتح على الآخر وتفهّمه وتقبّله، حقا لا زورًا، بشهادة التاريخ الطويل، ومن حقنا أن نطالب الآخر بمعاملتنا بالمثل. لقد انخرط المسلمون لمدة عقود في الموجة التي هبّت على العالَم تطالب بالحوار الديني، وبعد تجارب عدة، اكتشف المسلمون أنهم هم وحدهم الذين يُطلَب منهم تقديم التنازل تلو التنازل، بينما يظل الطرفُ الآخر يناور في مكانَه ولا يُغادر مواقفَه. التعايُش عملية تشاركية تبادلية لا يمكن أن تنجح إلا إذا قرّر كلّ طرف أن يتقدّم بخطواتٍ في اتجاه الطرف الآخر. ما عدا ذلك، فهو تمويه وشعوذة بلا طائل.