الدكتور الودغيري يكتب: لماذا نلجأ دائمًا إلى استصغار أنفسنا وتحقيرها أمام الآخرين؟!
هوية بريس – الدكتور عبد العالي الودغيري
بمزيد من الاستغراب، تلقيت الخبر الذي تناقلته بعض وسائل الإعلام والتواصل، في شأن قرار محكمة الاستئناف بالرباط الذي أبطل حكما ابتدائيا كان يقضى بإفراغ محل تستأجره سيدة حاملة للجنسية الفرنسية، بحجة أن الإنذار الموجه إليها من صاحب الملك مكتوبٌ باللغة العربية التي تجهلها، وكانت النتيجة أن المشتكِي المطالِب بالإفراغ خسر قضيته وضاع منه حقّه الثابت عدلاً وشرعًا، وعُوقِب هذا النوع من العقاب لمجرد استعماله اللغة الرسمية لبلاده الموجود فيها.
هناك أسئلة وإشكالات قانونية ومنطقية ولغوية كثيرة يطرحها علينا مثل هذا القرار القضائي الغريب من نوعه، أذكر منها ما تبادر إلى الذهن سريعا وأنا أقرأ الخبر:
هل هذا الحكم الذي سوف يصبح مرجعًا للاجتهاد القضائي في المغرب، وتقاس عليه نوازل وأحكام مشابهة من الآن فصاعدا، خاصّ بالتعامل مع الفرنسيّين المقيمين بالمغرب، أم أن مفعوله سوف يمتد ليشمل أيضا المغاربة الحاملين للجنسية الفرنسية، فيفتح بذلك الباب أمام كل مغربي تعلَّم في المدارس الأجنبية (ولاسيما مدارس البعثة الفرنسية)، أو نشأ في بلد أجنبي لمدة طويلة، أن يدعي أنه لا يعرف العربية المكتوبة التي تحرّر بها الإشعارات والإنذارات والعقود والالتزامات، فيحكَم له بنفس الحكم في النوازل المشابهة؟ هل المغربي المقيم فوق أرضه ووطنه مجبَرٌ على إتقان الفرنسية كلما أراد التعامل مع فرنسي وافد عليه أو حتى مع حامل للجنسية الفرنسية ولو كان واحدا من أبنائه؟
وإذا كان من المنطقي أن لا يشمل مثل هذا الحكم الفرنسيّين الأصليّين والمجنَّسين وحدهم، وإنما هو حكم عام شامل لكل الأجانب المقيمين بالمغرب، فهل سيكون المغاربة مطالبين من الآن فصاعداً، بمخاطبة كل أجنبي مقيم على أرضهم بلغته الخاصة في المنازعات القضائية والمسائل الرسمية والإدارية، فيخاطبون الروسي بالروسية، والصيني بالصينية، والياباني باليابانية، والكوري بالكورية، والبرتغالي بالبرتغالية، والهندي بالهندية… وهلم جرا، وإلا عمد القضاء لإبطال مفعول كل شكوى مقدَّمة ضدهم بالعربية التي لا يفهمونها؟
تصوروا أن كل شخص أجنبي مقيم بالمغرب سوف يصبح بإمكانه منذ اليوم، أن يرفض كل إشعار أو إنذار أو شكوى أو خطاب موجّه إليه من شركة اتصالات المغرب، أو شركة الماء والكهرباء، أو مصلحة الضرائب، أو من إدارة الأمن، أو من مصلحة بلدية أو إدارية معينة، أو أية جهة أخرى رسمية أو غير رسمية، أو حتى من شرطي استوقفه ليحرّر له محضر مخالفة في حركة سير، بدعوى أنه غير مكتوب باللغة التي يفهمها؟
هل من المنطقي أن يُلزَم المواطنُ المغربي الموجود داخل أرضه وبلاده، بالتعامل قانونيا مع الوافد الغريب بلغته الأجنبية في القضايا المشابهة، مباشرةً أو عن طريق مترجم، عوض أن يُلزَم الأجنبيُّ الوافد بالتعامل مع مُواطني الدولة التي يحلّ بها بلغتهم الوطنية والرسمية، علما بأن القوانين والأعراف الدولية، عادةً ما تُلزِم الأجنبي الوافد باحترام قوانين البلد الذي يزوره ويقيم فيه، والعربية في حالتنا هذه هي لغة دستورية قانونية للمغرب، والمفروض في سلطتنا القضائية والتنفيذية أن تحمي هذا الحق الدستوري والسيادي للمواطن المغربي، أي حقّه في استعمال لغته الوطنية والرسمية داخل حدود بلده الترابية في كل أمر يهمه، وليس مجبَرًا على التعامل مع الوافد على بلاده بلغة أجنبية مهما كان شأنها؟ فلو أننا عكسنا الصورة، وافترضنا أن مواطنا مغربيا مقيمًا في فرنسا، نزلت به هذه النازلة نفسها، بأن يكون قد توصل بإشعار بالإفراغ مكتوب بالفرنسية، هل سيحكم القضاء الفرنسي لصالح هذا المواطن إذا ادَّعى أنه لا يعرف الفرنسية؟
لماذا نلجأ نحن دائمًا إلى استصغار أنفسنا وتحقيرها واستضعافها وقتل كل مشاعر العزة والكرامة فيها، بما لا يزيدنا إلا ضعفا وهوانا أمام الآخرين؟
مسألة اللغة الوطنية أيها السادة، ليست مسألة عابرة أو ثانوية يمكن التعامل معها دون ربطها بسيادة البلاد العليا التي يجب أن تُحصَّن وتقدَّس، كما تُحصَّن وتقدَّس كل رموز السيادة الوطنية الأخرى كالعلَم والدستور والحدود الترابية.