من وحي الذكريات وشجى العواقب والمآلات
أ.د: أبو جميل الحسن العلمي
أستاذ الحديث والفكر الإسلامي بجامعة ابن طفيل
وما الطير إلا نائح يشتكي الظما — وآخر من فرط السعادة صداح
وما العيش إلا دمعة وابتسامة — وما الدهر إلا أمسيات وأصباح
تمرست بالدنيا فكل الذي بها — جراح وأفراح جراح وأفراح
عرفت أيام شبابي وأنا ابن سبعة عشر عاما أستاذا من الطراز الرفيع، كان ذا نفس سني إسلامي عجيب وحرص على الدعوة الإسلامية بمناطق الأطلس، لازلت أحتفظ بذكريات جميلة معه، إذ كان أستاذي في اللغة الفرنسية في الثانوي، من الأساتيذ القلائل الجامعين بين الرسوخ في الثقافة الفرنسية مع مشاركة في العلوم الإسلامية، وهو الذي شجعني على الاستمرار في حفظ القرآن الكريم، والعناية بتجويده، وكان شاعرا فصيح اللسان ينظم القصائد، كما جرأني على إلقاء المحاضرات في سن مبكرة، وكان رجلا كريما يستقبلني في بيته ويصحح لي فقرات العروض والمحاضرات التي كنت أكتبها لألقيها في دار الشباب أو الثانوية.
نفعني الله بنصائحه وتوجيهاته زمنا، ومن ثمار خزانة كتبه طالعت كتب سيد قطب ومؤلفات أبي الأعلى المودودي، ورسائل مصطفى محمود في حوار الملحدين، وبعض رسائل الإخوان المسلمين، وقد وددت والله لو أن الله ثبته على هدي السنة، لاسيما وقد درس العلوم الإسلامية بكلية الشريعة، وتابع دراسته العليا زمنا بدار الحديث الحسنية، وكان يرجى منه خير كبير لشباب هذا البلد.
لكن الثبات على طريق الهداية أمره بيد الله الذي يقلب القلوب كيف يشاء سبحانه، فقد كان لفكر المظلومية الزائدة الذي كان يضمره أستاذنا تجاه الواقع السياسي المرير يومئذ بتأثير من فكر الشبيبة الإسلامية والانبهار بالثورة الإيرانية في عقد الثمانينيات والمدائح التي كان يكيلها الشيخ عبد السلام ياسين لفكر الخميني أثر خطير على من لم يعتصم بعرى الكتاب والسنة ، فضَلَّ بذلك خلق كثير.
ومنهم أستاذنا المتحمس حيث حمله الفكر الثوري والحماس غير المنضبط بهدي الشريعة على الارتماء في أحضان الشيعة الذين كانوا يومئذ رموز الفكر الثوري السياسي في العالم الإسلامي بعد الإخوان المسلمين، لاسيما مع ضعف البضاعة العلمية يومئذ بخصوص نقد ضلالات الشيعة، وما كان ينضح أحيانا من نقد لعقائد الشيعة من لدن علماء المغرب الرسميين وشيخنا الدكتور تقي الدين الهلالي رحمه الله كان يقابل بالرفض والامتعاض من لدن شباب الحركة الإسلامية الغافل الذي حجبه الحماس السياسي عن إبصار الحق في نصابه.
فقد هللت أكثر التنظيمات الإسلامية للثورة الصفوية الإيرانية لما قامت، واعتبرها القادة والأتباع فتحا مبينا على العمل الإسلامي في ظل عتو التيارات القومية واليسارية في العالم الإسلامي، ولم يزالوا على ذلك سنين من الزمن، دون اكتراث بتحقيق في جذورها وتأصيل النظر في عقائد قادتها، حتى داهم كثيرا من دول الخليج وبلاد الشام مدّ التشيع الكاسح، وساند الشيعة الروافض المحتل الأمريكي في العراق، والمد النصيري في الشام، ونفذوا مجازر الخيانة في شباب وعلماء السنة في تلك البلدان.
وقد حدثني الشيخ محمد زين العابدين سرور صاحب كتاب «وجاء دور المجوس»، أنه زار المغرب يومئذ وجالس شباب الصحوة الإسلامية في كثير من مدن المغرب ينبههم إلى خطر التشيع المحدق بالعالم الإسلامي، ويحذرهم من التمادي في حسن الظن بالقوم والركون إلى خدعتهم لأهل السنة في مسألة التقريب بين المذاهب، لكن كان أغلبهم يقابلون كلامه بالاستهجان وينظرون إليه بعيون تدور في محاجرها كالذي يغشى عليه من الموت من شدة التعجب من غرابة هذا الكلام، فلم يستبينوا الرشد حتى داهمهم مدّ التشيع وأغار على معاقل الجالية المسلمة في أروبا، وخرب عقول شباب أهل السنة في شتى البلدان، كما قال الشاعر
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم — يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
وهذه واحدة من عشرات المواقف التي غلب فيها على التنظيمات الإسلامية قصور النظر العلمي وسوء التدبير والتقدير في تحليل المواقف والأحداث، إذ أن كثيرا من العاملين دخلوا الحركة الإسلامية بمجرد العاطفة الدينية، وتولجوها من باب الغيرة والحماس، وظنوا أن ذلك مع النية الصالحة كاف لخدمة الإسلام، وتلهى خلق منهم بأشياء من الفضول التنظيمي في الهياكل والأشكال، والترف الإداري والسياسي على حساب التكوين العلمي، فصرت تسمع لعملهم جعجعة ولا ترى طحينا .
وقد كان صاحبنا أحد ضحايا هذه المرحلة التي غلب فيها على أبناء وقادة الصحوة بالمغرب ضعفا علميا ظاهرا في مجال نقد عقائد الفرق الضالة، ومع تصاعد المدّ الشيعي في أروبا انقلب الرجل معمما شيعيا رافضيا، وخطيبا يسبح بحمد القوم ويقدس أحبارهم، حتى صار رأسا في نشر حركة التشيع في بلجيكا، وجنى على عقيدة كثير من الشباب المغاربة، نسأل الله السلامة؛ فكان حاله كما قال الشاعر :
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى — فصادف قلبا فارغا فتمكنا
ولطالما حرصت أن ألتقي به خلال زيارتي لأروبا لأحاوره في هذه الضلالات التي انتهى إليها لعل الله يرده إلى ظلال أهل السنة الوارفة من باب الوفاء للرجل ببعض الجميل، لكن لم ييسر الله ذلك، وقد وقفت له على محاضرة مسجلة في الدعاية لمشروع الرافضة في أرض الشام، فهالني والله وهاضني وأذهلني ما بلغه الرجل من إغراق في النزع وإبعاد في النجعة في مهامه التشيع والدعوة إلى الانغماس في التبعية لمحور الممانعة المزعومة كما يرى هو جبهتها اليوم في شيعة إيران الصفويين القتلة وحزب اللات والعزى والنظام النصيري في الشام بدعوى أنهم حملة مشروع المقاومة في الدفاع عن المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وأننا نحن المغاربة أصحاب باب المغاربة في القدس أولى الناس بهذا.
وقد أمعن في هذا الغي بما يؤكد أن الرجل انقلب إلى رأس من رؤوس الضلال والدعاة إلى هذا المكر الحائل، يدافع عن بشار النعامة ويعتبره أسدا من أسود ونمور المقاومة وحماية المشروع الإسلامي في المنطقة، متجاهلا المجازر البشعة التي ارتكبها أنجاس النصيرية والصفويين في مدائن وقرى الشام، وسفكوا فيها دماء الأبرياء، بتواطئ مع إسرائيل والجبهة الصليبية العالمية.
وإنني بهذه المناسبة أدعو هذا الأستاذ الشيعي المغربي المعمم أن يبادر إلى مراجعة دلائل الحق في منهاج النبوة وينظر بعين التجرد بعد أن يطرح عن رأسه عمامة الرفض ويزيل عن عينيه غشاوة التشيع التي احتجب بها عن إبصار نور السنة باسم حب آل البيت والانتساب إليهم بنسبه الحسيني، وما صاحب ذلك من إغراء الشيعة الصفويين أعداء الأمة، فإن أجدادنا الأدارسة يا أستاذي هداك الله لم يكونوا روافض يسبون أصحاب رسول الله صلى االله عليه وسلم، ولانشروا في المغرب مذهبا غير مذهب مالك بن أنس رضي الله عنه، وقد أثر عنه حب الصحابة وبغض الروافض، كما قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (1/498): (وقد ذهب طائفة من العلماء إلى تكفير من سبّ الصحابة وهو رواية عن مالك رحمه الله وقال محمد بن سيرين رحمه الله تعالى ما أظن أحدا يبغض أبا بكر وعمر وهو يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قال تقي الدين الحصني الدمشقي في كتابه دفع شبه من شبه وتمرد (30) : (ونبّه مالك على أنهم من سلالة المنافقين وقال أرادوا أن يقدحوا في النبي بشيء فلم يجدوا مساغا فقدحوا في الصحابة لأن القدح في الرجل قدح في صاحبه وخليطه وهؤلاء كفار لاستحلالهم سبّ أفضل الخلق بعد الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام) .
فنسأل الله لصاحبنا الهداية والرشاد، وأن يفيء إلى ظلال أهل السنة الوارفة، فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، لئلا يحيق به الخذلان ويحل به غضب الله وما أخبر به رسول الله العدنان القائل: (فو الله إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها).
قال ابن القيم رحمه الله: (وأما كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فإن هذا عمل أهل الجنة فيما يظهر للناس ولو كان عملاً صالحاً مقبولاً للجنة قد أحبه الله ورضيه لم يبطله عليه. وقوله: “لم يبق بينه وبينها إلا ذراع”؛ يشكل على هذا التأويل، فيقال: لما كان العمل بآخره وخاتمته لم يصبر هذا العامل على عمله حتى يتم له بل كان فيه آفة كامنة ونكتة خذل بها في آخر عمره فخانته تلك الآفة والداهية والباطنة في وقت الحاجة، فرجع إلى موجبها وعملت عملها ولو لم يكن هناك غش وآفة لم يقلب الله إيمانه، لقد أورده مع صدقه فيه وإخلاصه بغير سبب منه يقتضي إفساده عليه، والله يعلم من سائر العباد ما لا يعلمه بعضهم من بعض).
فالحمد لله على نعمة الهداية والثبات على هدي السنة، كما قال نجم العلماء الإمام مالك رحمه الله: (السنن سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق)، والله نسأل أن يثبتنا على سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ويسلك بنا مسالك النجاة، ويميتنا على ملته، إنه بكل جميل كفيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وهذا رابط محاضرة صاحبنا نسأل الله له الهداية
http://www.youtube.com/watch?v=Qqmw2kaxhpc