النقد حق والاختلاف في الرأي فضيلة
د. محمد وراضي
هوية بريس – الثلاثاء 05 يناير 2016
إن النقد على العموم رأي شخصي، أو هو رأي جماعي في أعمال أو في أفكار صدرت عن أصحابها في أي زمن وفي أي مكان. إنه إذن من حق أي إنسان بشرط أن تتوفر لديه حجتان: حجة لإظهار عيوب ما ينتقده، وحجة لإظهار محاسنه. لكن الميل إلى إظهار العيوب هو الغالب لدى النقاد المعاصرين، خاصة في المجال الديني والسياسي. وكأنهم يعودون بالنقد إلى أصله المادي لدى كافة الشعوب، حيث يتولى المتخصصون اختبار النقود لمعرفة المعيوب الزائف منها، ومعرفة السالم من الشوائب أو النواقص.
وموضوعاته لا تعد ولا تحصى، فالذي ينتقد فن النجارة، غير المتخصص في انتقاد فن الحدادة وفن العمارة. ونقد الفكر الديني والفلسفي، داخلان في إطار عمومية شمول النقد الذي هو في الواقع سلاح يومي، لا يمكن إلغاؤه حتى داخل أسرة واحدة كمجال محدود. فالأب ينتقد. والأم تنتقد. والأبناء ينتقدون. ونحن شهود عيان على ما ندعيه.
وحتى نبتعد عن الإطار الضيق لممارسة النقد الذي يعمق المعرفة، ويكشف عن أخطاء متفاوتة الخطورة، نوجه نظر خصوم السلفيين تحديدا إلى أن علماء المسلمين وفقهاءهم ومفكريهم، مارسوا النقد جهارا على آراء من سبقوهم إلى خوض مختلف المعارك في مجال الفكر والقلم.
لماذا؟ لأن النقد من مبادئ الدين بنصوص قرآنية وبنصوص حديثية: فالأمر بالمعروف كدعوة رئيس دولة ما إلى اعتماد العدل في تسييسها نقد. والنهي عن المنكر كدعوته إلى التخلي عن الظلم السائد على عهده نقد. يعني أن ديننا بصريح العبارة يدعو إلى ممارسة النقد على كافة الأصعدة. والدعوة هنا ليست من باب المباحات، وإنما هي من باب الفروض والالتزامات.
وأن يرتاح رسول الله إلى الاجتهاد (= إعمال الفكر) -كما ورد في حديث معاذ بن جبل المشهور- هو ارتياح إلى النقد من ناحية، وإلى فتح أبواب الاختلاف في الرأي من ناحية ثانية. فإن وجد معاذ وغيره من العلماء والقضاة والمفتين وعامة أهل العلم، نصا قرآنيا أو حديثيا يحكم في نازلة معروفة، فليتم تطبيق الحكم النقلي عليها حينها بدون ما تردد. وإلا كان على القاضي أن يدلي برأيه في تلك النازلة، مع مراعاة القياس عند حدود الإمكان، لأن الأصول المعتبرة -وفي مقدمتها الكتاب والسنة- مصدر للتفريع… وفي أثناء التفريع، ندلي بآرائنا التي هي نتيجة للنظر في المنقول قبل المعقول. وبما أن العقليات تختلف باختلاف الأفراد والجماعات، لزم أن نجد اختلافات في التفسير والاستنباط. هذا ما يفرضه الدين ويقره الواقع ويؤيده العقل السليم.
قال الإمام أبو حنيفة النعمان: ما جاء عن رسول الله فعلى الرأس والعين. وما جاء عن الصحابة تخيرنا (يعني أننا أحرار في أخذ رأي هذا وترك رأي ذاك). وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال (أي إننا نملك مثلهم حق الاجتهاد فيما لم يرد فيه نص نقلي واضح صحيح).
وقوله سبحانه: “وأمرهم شورى بينهم” معناه أن القرارات التي تصدر عن الشورى، أفيد عقلانيا من تلك التي تصدر عن شخص واحد مستبد. وأثناء النقاش والتحاور، تتقد البصائر وتنطلق المدركات من عقالها المتمثل في الذاكرة كخزان لمعلومات. هذه التي تفيض بمناسبة التشاور الذي ينجم عنه رأي موحد، نفعه يعود على الجماعة لا على الفرد وحده. بحيث يكون النقد المزدوج قد مورس والنقاش في بعض الأحيان يدرك حدته.
وما بالنا ونبينا عليه الصلاة والسلام، يتحاور في قضايا متعددة مع صحبه الكرام، ما لم تكن وحيا عليه نزل. إذ حينها لا نملك -كمسلمين واعين ملتزمين- غير التسليم بالنصوص الإلهية. لكننا في الوقت ذاته أحرار في شرحها، إن لم يتول ذلك رسول الله قيد حياته. وأدلتنا على أننا أحرار في شرح آيات الله وتأملها، يزخر بها الكتاب والسنة. وإلا فما الذي يعنيه التعقل والتدبر والاعتبار؟
وبالوقوف على أرض الواقع التاريخي، نجد الخصام والنقد والتشاور أمامنا، بخصوص اختيار قائد دولة الإسلام الفتية بعد التحاق نبينا بالرفيق الأعلى. إنه كما نعلم -كأهل السنة والجماعة- لم ينص على أي كان لتولي أمور المسلمين بعده. إذ لو نص على أحد لما قال الأنصار -وهم يتحاورون مع المهاجرين-: “منا أمير ومنكم أمير”. ولما لم ينص على أحد، فالتشاور لاختيار قائد للأمة هو الصائب. وهو في الوقت ذاته مناسبة متاحة لممارسة النقد البناء. وفي الوقت ذاته مناسبة للاختلاف في الرأي. بحيث يكون هذا الطرح الأخير، علامة على الصحة، لا علامة على الإصابة بخلل عقلي أو نفسي ما. حتى والانفعالات تشتد أحيانا والحوار في ذروته. ومع ذلك وقع الاختيار على أبي بكر الصديق ليكون أول خليفة لرسول الله بعد وفاته.
وهنا لا بد من الانتباه إلى نقطة أساسية جوهرية في السياسة والحكم: إنها تسليم الخليفة الأول بإمكان وقوعه في الخطأ، وهو يمارس سلطته الشرعية التي لم يقم باغتصابها اغتصابا كحال الانقلابين المغتصبين لها عبر قرون. بل إن السلطة التي لديه نتيجة مباشرة للمبايعة. والمبايعة مجال فسيح للاختيار. ومجال فسيح لإبداء الرأي. رأي مخالف ورأي مؤيد. مع كل طرف حججه لتبرير رفضه أو لتبرير تأييده. مما يدل على أن حرية الاختيار والديمقراطية بمعنى التشاور والتفاهم، والمساهمة بالآراء بعيدا عن أية ضغوط، مبادئ إسلامية قبل أن يرفعها الغربيون شعارا لهم، به يدغدغون مشاعر شعوب العالم. ولكنهم في الوقت ذاته، وباسم الديمقراطية والحرية والمبادئ الكونية، ماضون في إزهاق آلاف الأرواح البشرية! إذ أن توقفهم عن إزهاقها، لم يحن بعد أوانه!!! فملايين البشر في الحربين العالميتين: الأولى والثانية، ذهبوا ضحية الجشع والتهارش على الثروة ومصادرها! وآلاف آخرون ذهبوا ضحية ما يسمى بالحرب الباردة! وآلاف آخرون في التهارش العلماني، والإمعة المذمومة من قادة العرب والمسلمين لا زالوا يلقون نفس مصير ضحايا كل حرب تقودها العلمانية حتى الآن!!!
نقد وحوار واختلاف في الرأي إذن من صميم دين الإسلام. تكفي الإشارة إلى قول أبي بكر -وهو يتولى الخلافة- “لست بخيركم”. وهذا منه ليس مجرد التواضع، وإنما يعني الواقع الذي يدل على وجود أكثر من واحد مؤهل لتسيير شؤون الدولة. يعني أن دول عالم اليوم، تتوفر لا شك على رجال، تؤهلهم قدراتهم الفائقة على قيادة هذا الشعب أو ذاك، بحيث إن قدراتهم تلك، أعلى بكثير من قدرات قادة تلك الشعوب في الوقت الراهن!!! لكن غياب مقولة أبي بكر “لست بخيركم” عند القادة عبر العالمين: العربي والإسلامي، جعلهم إمعيين متعصبين، يفرون من النقد الذي دعا أبو بكر مبايعيه إلى ممارسته عليه حين قال: “إن أحسنت” قيادة الأمة استنادا إلى دستورها فأعينوني أو ساعدوني، يدي في أيديكم جميعكم بدون ما استثناء. وإن “أسأت” وابتعدت عن الاستقامة في تصرفاتي، إلى الحد الذي يظهر عنده أنني تجاوزت حدودي المنصوص عليها في المبايعة، بحيث إنني مارست الظلم والقهر على الأمة، فسددوني، أو قوموني بنقدكم الذي لا أخشاه بقدر ما أعتز به وأستفيد منه.
إنه في الحالة الأولى يدعو إلى التعاون والتكامل ليسود الاستقرار والطمأنينة والعدل والرخاء والازدهار، في ظل الحرية والإخاء والمساواة. وفي الحالة الثانية، أي عندما يغيب العمل بكل هذه المبادئ الدينية السامية المنصوص عليها في الدستور (= الكتاب والسنة)، فواجب الانتقاد حينها لا بد من تفعيله. أي لا بد من مواجهة الحاكم بالحقيقة المرة التي لا ينبغي إخفاء التصريح بها.
قال عمر بن الخطاب: “رحم الله من أهدى إلي عيوب نفسي”! في التفاتة منه وفي اعتراف إلى أن لكل إنسان أخطاء. وأن السعادة عنده – أي عند الخليفة عمر – هي التي تغمره متى كشف له أي مسلم صادق عن عيب من عيوبه! فكان أن تعرض رحمه الله لانتقادات صريحة في وضح النهار من طرف الرجال والنساء على حد سواء.
فاتضح كيف أن مبادئ الحرية والمساواة والأخوة والشورى (= الديمقراطية)، ليست وليدة الثورة الفرنسية كما يزعم الزاعمون، وإنما هي من صميم الدين الإسلامي الذي دعا إليها ومارسها رجاله الأوفياء. بينما اليوم يبتعد الأخلاف عن ممارستها لعوامل أصبح الكل على معرفة بها للأسف الشديد.
ليس العيب إذن في ممارسة النقد، وليس في الآراء المختلفة حول موضوع واحد، لأنهما معا من صميم الدين والواقع والتاريخ. فضلا عن كونهما فضيلة مطلوبة لتقدم الأمم والشعوب، وللكشف عن الحقيقة التي تخفى عن الكثيرين.
فإن نحن انتقدنا البوصيري في بردته. وأخذنا عليه مثل قوله: “أقسمت بالقمر” و”رب بالمصطفى”، فلأنه ارتكب جرما في حق ديننا، أي أنه تجاوز قول رسول الله: “من أقسم بغير الله فقد أشرك”؟؟؟ وإن هو ادعى أن نبينا وراء خلق الله للعالم. أي إنه بسببه أوجده إذ يقول: “لولاه لم تخرج الدنيا من العدم”، فلا بد لنا من استنكار ما سمعناه منه لا أن نسكت عنه! وإلا ما مارسنا حقنا في نقد الفكر الديني، وهو حق منحه لنا عز وجل في آيات عدة منها التي تتحدث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومنها قوله تعالى: “قل انظروا ماذا في السماوات والأرض”. والنظر هنا تعقل وتأمل وإطالة تفكير. ومنها قوله سبحانه: “ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون”.
ونحن إن نظرنا وتأملنا فلا بد أن نصل إلى وجهات نظر مختلفة. فنكون في هذه الحالة قد مارسنا النقد. وفي الوقت ذاته نكون قد انتهينا إلى الاختلاف في الرأي. فصح أن يكون كل منا عند رأيه معززا -كما قلنا- بالبراهين النقلية والعقلية الدامغة.