اتخذ المغرب قرارا بعدم التصويت على مشروع القرار الذي عرض على الجمعية العامة بإدانة روسيا، واعتبر أن قراره لا يحتمل أي تأويل بخصوص موقفه المبدئي من الوضع بين فدرالية روسيا وأوكرانيا، بحكم أنه سبق وأعلن في موقف سابق (يوم السبت 26 فبراير) عن رفضه لتسوية النزاعات بين الدول عبر اللجوء إلى القوة، وعن تشجيعه المبادرات التي تسهم في تعزيز التسوية السلمية للنزاعات، ودعمه للوحدة الترابية والوطنية لجميع الأعضاء في الأمم المتحدة.
من الناحية المبدئية، لم يبتعد الموقف المغربي عن الموقف العربي العام، والذي اختار دعوة طرفي النزاع إلى التهدئة وضبط النفس وتغليب منطق الحوار ورفض اللجوء إلى القوة لتسوية النزاعات مع الحفاظ على الوحدة الترابية للدول، لكن عمليا، حصل فرز كبير في الموقف، أخذ أربع اتجاهات، دول عربية دعمت القرار، وهي الأغلبية (مصر والسعودية والإمارات والأردن والكويت وقطر والبحرين واليمن وليبيا وتونس وجزر القمر وموريتانيا والصومال وعمان)، وثلاث دول امتنعت عن التصويت (الجزائر والسودان والعراق)، ودول فضلت عدم المشاركة في التصويت (المغرب، ولبنان)، ودولة واحدة رفضت القرار (سوريا).
لا يهمنا تحليل أسباب هذا الفرز، بقدر ما يهمنا فهم الموقف المغربي ودلالاته، ليس فقط من زاوية المبدأ، ولكن أيضا من زاوية التقدير السياسي المبني على مصلحة الدولة، وطبيعة ارتباطاتها الدبلوماسية والسياسية والاستراتيجية.
من زاوية المبدأ، فقد اختار المغرب منطقة الوسط، أي عدم الاصطفاف مع الزخم الغربي الضاغط على روسيا، وعدم مباركة نهج التدخل العسكري الروسي روسيا في لتسوية النزاع، وهو ما يعني إقرار المغرب بأن النزاع بين البلدين، لا يوجد حله لا في المقاربة الغربية ولا في المقاربة الروسية، وأن الأمر يتطلب تسوية النزاع بالأدوات السلمية.
من زاوية المبدأ، لا يوضح المغرب رؤيته التفصيلية لطبيعة النزاع، وإنما يكشف عن تفصيل واحد مركزي، وهو ضرورة المحافظة على الوحدة الوطنية والترابية للدول الأعضاء بمجلس الأمن، وهو ما يفهم منه، رفضه للتدخل العسكري الروسي، ولأي مشروع توسعي لموسكو في أوكرانيا. لكن، تأكيده على ضرورة تسوية النزاعات بالأدوات الدبلوماسية، يضمر اعترافا بوجود مصالح لروسيا (أمنية) وجب عدم الإضرار بها، وأن المنهج المعتمد من قطبي النزاع لن يفضي إلى أي نتيجة بل سيزيد الوضع تعقيدا، وربما يدفع إلى المجهول.
في زاوية المبدأ، لا تخفي لغة بلاغي وزارة الخارجية المغربية الموقف المغربي التفصيلي، لكن، ما يوضح هذه التفاصيل، هو الزاوية الدينامية، التي تتفاعل فيها مصالح السياسة، والعلاقات الدبلوماسية التي طورها المغرب مع البلدين طيلة العقد الماضي، والتي يخشى أن تهدر مكتسباتها في هذه المحطة الفاصلة.
سياسيا واستراتيجيا، لا تحمل ارتباطات المغرب مع أوكرانيا شيئا كثيرا، سوى ما كان من تدبير التوازن في المصالح بين البلدين، فقد سعى المغرب أن يطور علاقته بالبلدين بشكل متواز، وذلك حتى يبقي الخيارات مفتوحة عند أي توتر مع أحد البلدين، فيقع الانزياح عنه إلى الآخر، ما يوضح ذلك، أن رقم معاملات المغرب التجارية مع روسيا وأوكرانيا ارتفعت بشكل كبير ما بين 2015 و2021، بحيث تعدت سقف 7 مليارات دولار، ففي الوقت الذي عرفت فيه هذه المبادلات تراجعا كبيرا مع غالبية الدول الأوروبية بحوالي أو أكثر من 12 في المائة، سجلت نموا ملحوظا مع روسيا (15.2 في المائة)، ومع أوكرانيا (26.2 في المائة).
أرقام وزارة الصناعة والتجارة المغربية عن حجم التعامل التجاري مع أوكرانيا تعتبر نسبيا دالة، فقد بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين سنة 2020 حوالي 4.68 مليار درهم، أي ما يعادل نسبة 0.7 بالمائة من المبادلات التجارية، محتلة بذلك المرتبة 23، لكن، البعد السياسي والاستراتيجي لا يفسر شيئا من ذلك، فالواردات تفوق بكثير الصادرات، (4.1 مليار درهم في مقابل 534 مليون درهم فقط سنة 2020)، وتشكل الحبوب المادة الأساسية في الواردات (65 في المائة من الواردات المغرب من أوكرانيا).
لكن، بالنسبة للعلاقات المغربية الروسية، فقد أخذت منذ زيارة الملك محمد السادس لروسيا (سنة 2016) أبعادا سياسية واستراتيجية، إذ أعقب هذه الزيارة، توقيع 11 اتفاقية بالرباط، شملت مجالات الطاقة والصناعة والزراعة، وارتفع بذلك حجم التبادل التجاري بين البلدين من حوالي 200 مليون دولار فقط سنة 2001 إلى 2.5 مليار دولار في عام 2016، فأصبحت روسيا تحتل المرتبة التاسعة في قائمة الدول المصدرة للمغرب، والمرتبة الـ22 في قائمة المستوردين منه، حتى أضحى المغرب يشكل الشريك الاقتصادي الإفريقي الأول لروسيا (تضاعف حجم التبادل التجارب بين البلدين 15 مرة)، وكان الترتيب جاريا بعد القمة الروسية الإفريقية لتوقيع اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين.
ليس من قبيل الصدفة، أن تعرف العلاقات المغربية الروسية ألقها في حكم الديمقراطيين، ففي عهد باراك أوباما، ارتفع حجم التهديد الاستراتيجي للمغرب إلى استهداف وحدته، وتم الحديث عن مخططات أمريكية يجري التهييئ لها لتقسيم المغرب، فيما بات يعرف بمخططات استهداف الملكيات في الوطن العربي، وكان الجواب المغربي واضحا من خلال مشاركته في القمة الخليجية المغربية، إذ 16 فبراير 2016، فقد تحدث الملك محمد السادس بلغة واضحة ومباشرة، لم تكن معهودة في الخطابات الرسمية، فتحدث عن وحدة التهديدات الأمنية بين المغرب ودول الخليج، وأن العالم العربي يعيش على إيقاع تغيير الأنظمة وتقسيم الدول، وأن هناك محاولة لوضع اليد على خيرات باقي الدول التي تنعم بالاستقرار، وضرب نماذجها الناجحة، وأشار إلى أن هذا السياق هو الذي فرض على المغرب تنويع شراكاته على المستوى السياسي والاستراتيجي والاقتصادي، وضمن هذه الرؤية حصلت زيارة الملك محمد السادس إلى موسكو في يناير 2016.
صحيح أن وضع المغرب اليوم قد تغير، وأنه راكم العديد من المكتسبات على مستوى قضيته الوطنية، ومن ذلك الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على صحرائه، والتحولات الإيجابية التي حدثته في ملف وحدته الترابية (دعم دولي وعربي وإفريقي واسع لمقترحه في الحكم الذاتي) لكن، ثمة دائما توجسا مغربيا من حكم الديمقراطيين، وتخوفا من الرهانات الخفية التي يخططون لها، ولذلك، بدا واضحا من الموقف المغربي، رغبته في تحصين المكتسبات المهمة التي حققها من جراء تنويع شراكاته، وبشكل خاص، مع روسيا التي كانت تمثل التهديد الأكبر لمصلحة المغرب في كسب رهان وحدته الترابية، بحكم أنها كانت تمثل الحليف الاستراتيجي للجزائر.
منذ 2016 إلى اليوم، لم تحدث مؤشرات مقلقة من الجانب الروسي تجاه المغرب، سوى ما كان من معاكسة المقاربة المغربية في مالي، من خلال تعزيز نفوذها الأمني والاستراتيجي بالمنطقة، بعد التوتر الذي حصل بين الفرنسيين والانقلابيين في مالي، إذ بدأت روسيا بدعم لوجستي جزائري، تتطلع إلى أن تملأ الفراغ أمنيا هناك، بعد الانسحاب الفرنسي
على أن الأمر لا يخص فقط قضية الصحراء، وإنما يشمل اعتبارات أخرى، تندرج ضمن الأمن الطاقي والغذائي للمغرب، وضمن تقوية الصادرات المغربية وتأمين تدفقها للأسواق العالمية، فالاتفاقيات التي أبرمها المغرب مع روسيا تشمل النفط والمواد الطاقية، وهي جزء من الاعتبارات الاستراتيجية التي يحرص المغرب أن يجعل روسيا فاعلا محوريا فيها، حتى يتجنب سيناريوهات ما قبل 2016، أي مرحلة الاصطفاف الروسي ضد المصالح المغربية الحيوية، وفي مقدمتها الصحراء.
في المحصلة، يبقى بلاغ الخارجية المغربية، وعدم المشاركة في التصويت، هي الصياغة المناسبة التي تضمن التوازن في الموقف، وعدم الاصطفاف مع أي جهة، وعدم الإجهاز على المكتسبات التي بنيت في سنوات طويلة، والبقاء دائما في مربع تنويع الشركاء وعدم وضع البيض في سلة واحدة.