الدكتور العثماني يكتب: الإيمان والمرض النفسي
هوية بريس- الدكتور سعد الدين العثماني
يتساءل بعض القراء عن دور الإيمان في الوقاية من المرض النفسي وفي علاجه. وبعضهم يخلط بين المرض النفسي وبين مرض النفوس ذي الطابع الديني والأخلاقي، وآخرون يعتبرون الإيمان كافيا للوقاية من المرض النفسي، وأن الإصابة بهذا الأخير دليل على ضعف الإيمان. وتشكل هذه الأفكار ومثيلاتها عوائق للتصرف السليم والإيجابي تجاه الاضطرابات والأمراض النفسية. لذلك من المهم التأكيد على بعض محددات العلاقة بين الدين والإيمان من جهة والمرض النفسي من جهة أخرى.
1 ـ إن المرض النفسي مثله مثل المرض العضوي يصيب الإنسان المؤمن وغير المؤمن. المتدين وغير المتدين، ومن الأخطاء الشائعة الخلط بين دور الإيمان في التخفيف عن المصاب ودوره في الصبر على العوارض النفسية العادية من جهة، وبين إصابة المؤمن بالمرض النفسي من جهة ثانية. فالمؤمن مثله مثل البشر الآخرين، يصح ويمرض، ويخضع للقوانين التي خلق الله وفقها الصحة والمرض. لذلك نجد الكثير من الصالحين المتدينين يصيبهم المرض النفسي، كما نجد كثيرا ممن لا يعتنقون أي دين غير مصابين بأي مرض نفسي وفق التصنيفات الطبية.
2 . إن هناك فرقا كبيرا بين المرض النفسي الذي يعالج عادة في الطب ومن قبل المتخصصين، و”مرض النفس” (أو ما يسميه بعض علماء الإسلام بمرض القلب) الذي يعني انحراف إرادة الإنسان عن الحق أو عن تعاليم الوحي. فالنوع الأول أو المرض النفسي الذي يدخل في اختصاص الأطباء، مرض له قوانين خارجة عن إرادة الإنسان، يصيب – مثل المرض العضوي – المؤمن وغير المؤمن، المطيع والفاجر، مادامت أسبابه موجودة.
أما النوع الثاني أو “مرض النفس”، فمرض إرادة وشهوة، مثل الأنانية والحسد وإرادة الشر بالغير…، وعلاجه يعود إلى المربين بكل أنواعهم.
وممن فطن إلى هذه التفرقة الدقيقة من علمائنا الأقدمين ابن قيم الجوزية. فهو يقول: “مرض القلب نوعان:
نوع لا يتألم صاحبه به في الحال (…) كمرض الجهل، ومرض الشبهات والشكوك، ومرض الشهوات(…) وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم، فهم أطباء هذا المرض.
والنوع الثاني، مرض مؤلم له في الحال، كالهم والغم والحزن والغيظ، وهذا المرض قد يزول بأدوية طبيعية كإزالة أسبابه، أو بالمداواة بما يضاد تلك الأسباب، وما يدفع موجبها مع قيامها (…) [انظر: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان: 1/18].
3 ـ إن القول بأن الإيمان يمنع المرض النفسي، بمفهومه الطبي، غير صحيح. قد نقول إنه يخفف وقع بعض أنواعه، أو يخفف حدة مجيء بعضها الآخر، لكنه لا يمكن أن يمنعه كما لا يمكن أن يمنع المرض العضوي. ونحن نعرف أن المجتمع الإسلامي منذ كان، عاش فيه المصابون بما كان يسمى “الجنون” مثلا، دون أن يقول أحد إن ذلك دليل على عدم إيمان المصاب. بل المعروف شرعا أنه غير مكلف لأنه لا يملك القدرة على التمييز. ونحن نعرف اليوم أن مرض الفصام يصيب 1% من كل المجتمعات أيا كان دينها، وأيا كانت درجة إيمانها. وبالتالي فإن المرض النفسي قدر من الله، ككل ما يقدره سبحانه، له أسبابه الموضوعية التي لا تحابي مؤمنا ولا كافرا. وكذلك فإن إصابة الشخص بالمرض النفسي لا يطعن في إيمانه ولا ينقص منه. وقل الشيء نفسه عن باقي الأمراض النفسية.
3 ـ أما عن دور الإيمان في علاج المرض النفسي بمفهومه الطبي، فكثيرا ما يتضمن تصوره الكثير من الأخطاء. فلا شك أن للإيمان والذكر وقراءة القرآن دورا في تخفيف المرض النفسي لدى المسلم، وهي تفتح باب الأمل والرجاء أمامه، وتعزي المريض في كل ما يمكن أن يفقده بسبب مرضه، وتعده بالعوض عند الله سبحانه. لكن هذا لا يعني الاستغناء بها عن الأخذ بالأسباب الموضوعية في العلاج. وكثيرا ما يستدل البعض بالأحاديث الواردة حول تأثير الرقية. لكن استعراض تلك الأحاديث يبين أنها تتحدث عن تأثير الرقية الإيجابي بالنسبة للمصاب بأمراض عضوية. فمن تلك الأحاديث مثلا حديث أنس بن مالك في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في الرقية من العين والحمة والنملة. والحمة سم العقارب وغيرها، والنملة قروح تخرج من الجنب. وعن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا رقية من عين أو حمة”. يقول الإمام البغوي في (شرح السنة): “ولم يرد به نفي جواز الرقية في غيرهما، بل تجوز الرقية بذكر الله سبحانه وتعالى في جميع الأوجاع”. فالأحاديث المذكورة تثبت مشروعية الرقى من لدغة عقرب أو قروح أو غيرهما، وهي أمراض عضوية. ولم يقل أحد أن قراءة الفاتحة أو الرقية لملدوغ أو مقروح يغني عن العلاج بالأدوية والأسباب الطبية. فإذا صح هذا في مجال الأمراض العضوية فهو أيضا صحيح في الأمراض النفسية.