في طريق رجوعنا من سفر إلى الدار البيضاء، وقفنا كالعادة بمحطة الاستراحة بوزنيقة لأداء فريضة الصلاة -نسأل الله أن يتتقبل طاعتنا-، وعند نزولنا من السيارة، أثار انتباهنا اصطفاف بضعة سيارات ذات الدفع الرباعي تحمل لوحات إسبانية، ورجال من السياح الأجانب واقفين وآخرين جالسين، متحلقين حول مائدة بالقرب من سيارة فتحوا صندوقها، وقد وضعوا أمامهم طعاما مختلفا ألوانه، ومعلبات مشروبات متنوعة منها قنينات الخمر من أنواع الجعة والنبيذ.
عنَّ لي أن أوثق بالصورة هذا المنظر المثير لكل مسلم لم تتبلد نفسه أو يصبها فيروس الدياثة وجرثومة الانحلال، اللذان تفرقهما القنوات الإعلامية الوطنية يوميا على بيوت المغاربة دون استئذان. منظر مثير لكل مغربي تشمئز نفسه من عمليات المسخ والاستيلاب والإلحاق الحضاري بثقافة الغرب العلماني.
مثير لكل مغربي قرأ عن الاحتلال الإسباني وحروبه ضد المغاربة الأشاوس ومشاريعه في طمس الهوية المغربية. مثير لكل مغربي يرى في مخالفة شريعة الإسلام والمذهب المالكي تقهقرا وتخلفا وتبعية لمحتل الأمس القريب.
أخذت هاتفي وبدأت أقلب الصور والشريط، تذكرت واقعة وقعت لي في نفس المحطة فأحسست بالضيم، أحسست بالقهر؛ وقلت في نفسي: هكذا تصنع الدولة الحقد والكراهية لها في نفوس أفراد الشعب. كنّا ذات يوم من أيام الصيف من السنوات الموالية لأحداث 16 ماي الإرهابية، في سفر أطول من هذا، وأردنا أداء واجب الصلاة وأخذ قسط من الراحة، فدخلنا محطة استراحة بوزنيقة، صلينا ثم جلسنا نرتاح بالمقهى المجاور نرتشف القهوة والشاي كل حسب ما يشتهيه، تزامن هذا السفر مع زيارة لكولن باول وزير الخارجية الأمريكي آنذاك المغرب؛ وماهي إلا عشر دقائق حتى وقف علينا رجل دركي يسألنا ماذا نفعل هنا، طلبت منه متسائلا، ياك لا باس، هل قمنا بمخالفة لا قدر الله؟ تكلمت معه بأدب، وأعلمته أنها ليست المرة الأولى التي نقع فيها في مثل هذا الموقف، ارتبك معلنا أن هذا العمل “طلع ليه فراسو”، وصرح لي أنه كان جالسا في أمان الله، فاتصل به رئيسه غاضبا ليخبره أن أصحاب اللحى معمرين الاستراحة وأنت ناعس.
وطلب منا باستحياء أن ندلي بمعلومات مفصلة عن أنفسنا، حتى ينفذ ما أمر به؛ كانت أسئلته على شكل استنطاقات.
ثم مضى وتركنا نتساءل، ونحلل الحالة التي وصلنا إليها من المتابعة والتضييق، في تمييز صارخ بين المواطنين؛ لمجرد إعفاء اللحية.
ففي بلادي للأسف الشديد يؤتمن الخائن ويخون الأمين ويصدق الكاذب ويكذب الصادق وينطق الرويبضة، ويقف السياح على مرآى ومسمع يحتسون النبيذ والجعة، يستفزّون المارة والمسافرين، يغرون الشباب باستهلاك المحرمات.
بين واقعة البارحة وواقعة اليوم، مسافة بضع سنين قطعتها في لحظات؛ لم أركب السيارة بعد أن صلينا، وقفت أتأمل ومرت بخاطري صور العلامة گنون عندما أقسم أن يهاجر من فاس لكيلا يضطر إلا النظر في وجوه النصارى بعد فرض الحماية، لم يستطع أن يتحمل منظرهم وهم يدوسون تراب فاس، فكيف يقبل أن يراهم يتبادلون كؤوس الخمر في الشوارع. تخيلت لو أن الشيخ أبي علي اليوسي مر ببوزنيقة ماذا كان سيكون موقفه؟؟ ثم دخلت بخيالي البرلمان وسمعت أحمد توفيق يخطب عن المذهب المالكي السمح، وعن العقيدة الأشعرية الخالية من التكفير، وعن سلوك الجنيد.
أقفلت عيني كي لا أرتبك من صعوبة المشهد؛ إذ لم يسبق لي أن دخلت ناديهم، ثم وقفت أمامه معترضا بعد أن أعطتني خديجة الرويسي الكلمة على مضض بصفتها رئيسة الجلسة، لأعقب على مداخلة الوزير التوفيق، صرخت بأعلى صوتي مخبرا إياه بما وقع ببوزنيقة، شرحت بسذاجة أن الأمر خطير، منددا متسائلا: هل المذهب المالكي يبيح شرب الخمور على قارعة الطريق، وهل العقيدة الأشعرية تبيح هذا التسامح مع النصارى حتى يعلنوا بالفواحش في الطرقات، وهل سلوك الجنيد يسوغ السكوت وعدم الإنكار لهذه الموبقات؟ بعد أن انتهيت من كلامي جلست ولم أفتح عيني، انتظرت أن يجيب الوزير، طال انتظاري، وساد حولي صمت كصمت القبور في ليل بهيم من ليلي الشتاء، فتحت عيني ونظرت حولي فوجد القاعة فارغة، كدت أجن، ثم خرجت مسرعا لأجد بالباب حارسا؛ سألته: أين ذهب القوم؟؟ فأجابني: لقد جاءهم الأمر فذهبوا ليعزوا فرنسا في ضحايا شارلي إبدو.
لم أستفق من هول الصدمة إلا وأنا أحس بمن يجذب جِلْبابي بقوة، وهو يصيح لقد تأخرنا ياصديقي.
مسحت وجهي من أثر الغفوة والخيال لألقي نظرة أخيرة مصحوبة بزفرات الحزن والأسى على الإسبان وقنينات الخمر بين أيديهم، على بعد أمتار من مسجد الباحة، ثم صعدت السيارة مع صديقي وانطلقت.
إنَّا لله وإنا إليه راجعون
نسأل الله أن يستفيق مسؤولونا وينظفوا شوارع المملكة من هذه القاذورات. لن يحرؤوا على فعلها في أمريكا العلمانية.
سرد رائع للاحدات اتمنئ ان يتم التدخل لمنع متل هده السلوكات المشينة التي تستفز المسلمين