حوار لطيف مع الشيخ العلامة محمد اﻷمين الشنقيطي في مجلس الشيخ عبد الله الزاحم
هوية بريس – الأربعاء 24 فبراير 2016
كان الشيخ محمد الأمين الشنقيطي قد ذكر في بعض دروسه في المسجد النبوي أن والدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الفترة، وذكر ما يقوله أهل العلم في أهل الفترة.
وفي إحدى الليالي استدعاه الشيخ عبد الله الزاحم إلى منزله، فلما حضر رحّب به وأوسع له في المجلس إلى جنبه، وكان مجلسه ذلك الوقت ليس به إلا المنتسبون للعلم، وكان بين أيديهم كتاب فيه مرجع.
قال الشيخ محمد الأمين: فلما انتهى التسليم ناولني الشيخ عبدالله الزاحم الكتاب، فإذا هو شرح النووي على صحيح مسلم والمرجع فيه عند حديث: «إن أبي وأباك في النار».
قال الشيخ عبد الله الزاحم: إنك قبل أيام قلت في الدرس كذا وكذا، لما قرر من أنهما من أهل فترة.
قال الشيخ الشنقيطي: قلت ما قلت اعتمادا على نص من كتاب الله قطعي المتن وقطعي الدلالة، وما كنت لأردّ نصا قطعي المتن قطعي الدلالة بنص ظني المتن وظني الدلالة عند الترجيح بينهما؛ فهذا الحديث خبر آحاد، ومثله حديث أبي هريرة عند مسلم: «استأذنت ربي أن أزور أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لهما فلم يأذن لي»، ولكن أخبار الآحاد ظنية المتن فلا يردّ بها نص قرآني قطعي المتن،
وهو قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) [الإسراء:15]؛ أي: ولا مثيبين.
وهذا النص قطعي الدلالة لا يحتمل غير ما يدل عليه لفظه بالمطابقة، بخلاف حديث: «إن أبي وأباك في النار»؛ فإنه ظني الدلالة؛ يحتمل أنه يعني بقوله: «إن أبي» عمه أبا طالب؛ لأن العرب تسمي العم: أباً، وجاء بذلك الاستعمال كتاب الله العزيز في موضعين:
أحدهما: قطعي المتن قطعي الدلالة، وهو قوله تعالى في البقرة: (قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) [البقرة:133]، وإسماعيل عمه قطعاً؛ فهو يعقوب بن سحاق بن إبراهيم.
والموضع الثاني: قطعي المتن لكنه ظني الدلالة، وهو قوله تعالى: «وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ» إلى أن قال: «وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً» [الأنعام:84/86]؛ فهو نص قرآني على أن إبراهيم يطلق عليه أبٌ للوط، وهو عمه على ما وردت به الأخبار، إلا أن هذا النص ظني الدلالة لأنه يحتمل أن يكون الضمير من قوله تعالى: (وَمِن ذُرِّيَّتِهِ) يرجع إلى نوح، لأنه قال في الآية من قبل ذلك: «وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ»، ولكنه احتمال مرجوح؛ لأن الكلام عن إبراهيم.
وإذاً فإنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم لما سأله الأعرابي بقوله: أين أبي؟ وقال له: إن أباك في النار وولّى والحزن باد عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: «ردوه علي»، فلما رجع قال له: «إن أبي وأباك في النار».
يحتمل أنه يعني بأبيه: أبا طالب؛ لأن العرب تسمي العم أبا لا سيما إذا انضمّ إلى العمومية التربية، والعطف والدفاع عنه.
ثم قال: والتحقيق في أبوي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما من أهل الفترة؛ لأن تعريف أهل الفترة أنهم القوم الذين لم يدركوا النذارة قبلهم، ولم تدركهم الرسالة التي من بعدهم، فإذا كان ذلك كذلك، فإن والد النبي صلى الله عليه وسلم التحقيق أنه مات والنبي -بأبي وأمي هو- حمل في بطن أمه، وأمه صلى الله عليه وسلم ماتت وهو ابن ستة أعوام بلا خلاف؛ وإذاً فإنهما من أهل الفترة.
فقال أحد الحضور: العرب كانوا على دين إسماعيل فعندهم نذارة أدركوها.
فقال له الشيخ الأمين: هل أنت على بصيرة مما تقول؟ فقال نعم.
فقال له الشيخ محمد الأمين: أين أنت من قوله تعالى في سورة يس: (لتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ) الآية [يس:6] وما هنا نافية على التحقيق بدليل الفاء في قوله: «فَهُمْ غَافِلُونَ»؛ أي: لعلة عدم إنذارهم.
وأين أنت من قوله تعالى في سورة القصص: «وَلَكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ» الآية [القصص:46].
وأين أنت من قوله تعالى في سورة سبأ: «مَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ» الآية [سبأ:44].
وأين أنت من قوله تعالى في سورة السجدة: «بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ» الآية [السجدة:3].
قال شيخنا: إن التحقيق في أهل الفترة، والبله، وأولاد المشركين الذين ماتوا صغاراً أنهم تشب لهم نار يوم القيامة في عرصات المحشر فيؤمرون باقتحامها، والله يعلم من خلقه منهم للجنة فيقتحمونها فتكون عليهم برداً ويذهب بهم ذات اليمين، ويعلم من خلقه منهم للنار فيمتنعون من دخولها فيذهب بهم ذات الشمال، ذكر ذلك ابن كثير في تفسير قوله تعالى: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً» الآية [الإسراء:15].
وقال: إنه جاءت بذلك أحاديث منها الصحيح، ومنها الحسن، ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن؛ وإذا كانت أحاديث الباب متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها.
فقال أحد الحضور: هذا تكليف والآخرة دار جزاء فهي يوم الدين.
فقال له شيخنا: هل أنت على بصيرة من قولك هذا؟ قال: نعم.
قال الشيخ محمد الأمين: قال تعالى في سورة القلم: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ» الآية [القلم:42]، أي يوم هذا يا معشر الحضور؟ وهل كان هذا تكليفاً في عرصات القيامة بنص كتاب الله؟
وأيضاً، قد ثبت في الصحيح أن المؤمن يسجد لله يوم القيامة، وأن المنافق لا يستطيع السجود، وتكون ظهور المنافقين مثل صياصي البقر، أليس هذا بتكليف في عرصات القيامة؟
قال أحد الحضور: أليس بالإمكان حمل الخاص على العام؟ لأن الخاص يقضي على العام عند الجمهور؛ فقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) الآية [الإسراء:15]. دليل عام، والأحاديث الواردة في أشخاص معينين دليل خاص، فما أخرجه دليل خاص خرج من العموم، وما لم يخرجه بقي على عمومه داخلاً فيه.
قال شيخنا: إن هذا التخصيص لو قلنا به لأبطل ذلك حكمة العام؛ لأن الله تعالى تمدح بكمال الإنصاف، وأنه لا يعذب أحداً حتى يقطع حجة المعذب بإنذار الرسل له في دار الدنيا، فلو عذب أحداً من غير إنذار لاختلّت تلك الحكمة التي تمدَّح الله بها، ولثبتت لذلك المعذب الحجة على الله التي أرسل الرسل لقطعها كما بينه تعالى في سورة النساء: (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) الآية [النساء:165].
وهذه الحجة التي أرسل الرسل لقطعها بيّنها في آخر سورة طه بقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى) [طه:134]، وقال تعالى في سورة القصص: (وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [القصص:47].
فيتعين بكل هذه الحجج عذر أهل الفترة بفترتهم في الدنيا، وأنهم ممتحنون يوم القيامة، ولا يعلم من يقتحم منهم النار ممن يمتنع إلا الله الذي خلقهم، والعلم عند الله تعالى هو حسبنا ونعم الوكيل.
ثم إن الشيخ عبدالله الزاحم قد نصح بعض الحضور لهذه الجلسة قائلا: إن من نصيحتي لك أن لا تتكلم في مجلس فيه هذا الرجل الذي تسلح بآيات كتاب الله، ينظر إليها كأنها بين عينيه، فلا يؤمن على أحد عارضه أن يرميه بآية تخرجه من الملة، نسأل الله السلامة والعافية.
وبعد هذا المجلس بنحو ثلاثة أيام دعا الشيخ عبد الله بن زاحم الناس دعوة عامة على شرف الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، حضرها كثير من المنتسبين للعلم، وكانوا يتكلمون ويبحثون بحثا عاما كل فيما يحلو له، وكان من عادة الشيخ الشنقيطي -رحمه الله- عدم الكلام في المجلس إلا إذا سئل عن شيء، أو إذا سمع غلطا لا يحسن السكوت عليه.
فبينما الحضور في ذلك البحث العام إذ قال أحدهم: إن التاريخ محفوظ من عهد آدم إلى يومنا هذا.
فاعترضه الشيخ -عليه رحمة الله- قائلا: لا تقل هذا فالتاريخ غير محفوظ.
فأجابه قائلا: هذا ابن كثير في البداية والنهاية أتى به مبينا وقائع كل سنة؛ فهو محفوظ.
فقال الشيخ الشنقيطي -رحمه الله-: يا أخي إن الله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم في سورة النساء: (ورسلا قد قصصناهم عليك ورسلا لم نقصصهم عليك) الآية [النساء:164].
فأجاب الباحث قائلا: يمكن أن يكون قصهم عليه في نوع آخر من الوحي غير التنزيل.
فقال الشيخ الشنقيطي: أحسنت في جوابك هذا، ولكن ما هو جوابك عن ما جاء في سورة إبراهيم: (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله) [إبراهيم:9]، أفعلمهم ابن كثير حتى يكتب عنهم؟
وعندها صاح الشيخ عبد الله الزاحم قائلا: هذا الموقف الذي كنت أخشاه عليك، أجب:
(لا يعلمهم إلا الله) أفعلمهم ابن كثير؟ نصحتك لكنك لم تقبل نصيحتي.
انظر: (مجالس مع فضيلة الشيخ: محمد الأمين الجكني الشنقيطي، كتبها تلميذه: أحمد بن محمد الأمين بن أحمد الجكني الشنقيطي) (ص:39-49).
سبحان الله
كانوا حقا في رياض الجنة
غفرانك
الله أكبر ما أعظمها من مجالس. اللهم بارك لنا في علمائنا ولا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم