الإصلاح الاجتماعي في أركان الإسلام
هوية بريس – د. علي محمد الصلابي
إنّ القرآن الكريم اهتم اهتمامًا بالغًا ببيان حقيقة العبودية ودعوة الناس إلى تحقيقها كما ينبغي، كما بين شروط قبول العبادة وأمر المسلمين بالالتزام بها، ووجه الناس إلى مفاهيم أصيلة في العبودية وحذرهم من الشرك ومن الانحراف عن معنى العبودية الصحيح، كما أشار إلى أهمية الجانب العبادي في حياة الناس في تثبيت الاعتقاد، وتأسيس القيم والأخلاق وزرعها وغرسها في نفوس المؤمنين، كما اهتم ببيان الجانب العبادي في إصلاح النواحي الاجتماعية، وقد برز الإصلاح الاجتماعي في أعظم العبادات في الإسلام؛ الصلاة، والزكاة، والحج.
أولاً: الصلاة:
ويظهر ذلك في الصلاة ودورها في إيجاد العلاقات الاجتماعية، وذلك واضح في الحكمة من صلاة الجماعة، لأن اجتماع المسلمين راغبين في الله، راجين، راهبين، مسلمين وجوههم إليه خاصية عجيبة في نزول البركات، وتدلي الرحمة، فيحدث التعاون، والتعارف، والوحدة والاجتماع على الخير.
ثم تأتي صلاة الجمعة: فتجمع أهل الحي على هيئة جامعة أكثر من ذلك في كل يوم جمعة، حيث شرع الله لنا خطبتها تذكيرًا وتعليمًا للمسلمين بما يصلح دينهم ودنياهم، كحد أدنى للتثقيف العام في أمور الدين، ثم تأتي صلاة العيد، فتجمع أهل المدينة كلها مرتين في السنة في عيد الفطر والأضحى، يخرجن الأبكار والعواتق، بل والحيض يشهدن الخير ودعوة المسلمين، ويعتزلن المصلى كما جاء في الحديث الصحيح الذي ترويه أم عطية رضي الله عنها قالت: «أمرنا أن نخرج العواتق وذوات الخدور». [رواه البخاري، كتاب العيدين، باب: خروج النساء والحيض إلى المصلى، 2/9].
هذا عدا ما شرعه الله تعالى لنا من صلوات جامعة في مناسبات شتى، كالاستسقاء والخسوف والكسوف والجنائز، والتراويح في رمضان، إن الصلاة -لو وعى المسلمون حقيقتها- لهي توجيه وتنظيم اجتماعي كامل، يتمثل فيه المجتمع الكبير، وبقدر ما يحسن المسلمون هذه الصلاة، وما تعنيه من معان وتوجيهات، بقدر ما يرجى لهم إحسان الحياة في اجتماعاتهم، ولا فرق في هذا المنهاج بين المسجد والمجتمع، فكلاهما تجمع يجب أن يخضع لدين الله وتعاليمه. [المنهاج القرآني في التشريع، 462].
ثانياً: الزكاة:
أما الزكاة: في حقيقتها واجب مالي يؤخذ من الأغنياء ليرد على الفقراء وذوي الحاجة من الغارمين والأرقاء وغيرهم، وهي بذلك تمثل الحد الأدنى المفروض فرضًا للتعاون الاجتماعي، والتكافل الاقتصادي بين أبناء الأمة الواحدة، لذلك جعل الله تعالى معظم مصارفها اجتماعية بحتة، بأوسع المدلولات الاجتماعية في القديم أو الحديث على السواء، وكما جاءت صلاة العيد لتوسع دائرة الاجتماع في الصلاة، تأتي هنا أيضًا «زكاة الفطر» لتوسع قاعدة التكافل والتعاون إلى أقصى حد.
ثالثاً: الحج:
أما الأثر الاجتماعي لفريضة (الحج) فواسع شامل، ولا زالت آثاره تظهر كل يوم بجديد من حكمة الله تعالى في تشريعه، وقد أشار القرآن الكريم إلى كثير من ذلك، قال تعالى: “لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ” [البقرة: 198].
روى البخاري بسنده عن ابن عباس قال: (كانت عكاظ، ومجنة، وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فتأتموا أن يتجروا في موسم الحج، فسألوا رسول الله فنزلت الآية: “لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ” [البقرة: 198]، وقال تعالى: “وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ” [الحج:28،27].
والمنافع المشهودة كلمة جامعة تشمل المنافع الروحية والمادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، والاقتصادية وسائر ما يطلق عليه اسم (المنفعة)، وقد جعلت غاية من غايات الحج وتقديمها على ذكر الله تعالى إيذان ببالغ أهميتها في مراتب المنافع والحكم الشرعية، وإن من أعظم هذه الفوائد جمع أطراف الأمة المسلمة كل عام، وما يحققه من استنفار جزء من كل إقليم سنويًا ليركبوا الأخطار والأسفار، ويقطعوا السهول والقفار، أو يمتطوا الأجواء والبحار، ويتركوا الأولاد والأهل والديار فيجتمع المسلمون من أطراف الأرض، ويلتقي الشرقي بالمغربي، والمصري بالهندي، في مؤتمر جامع، ورحلة مباركة، وليحققوا عمليًا دعوة القرآن بالسير في الأرض، والسياحة في الآفاق، ومطالعة المشاهد المقدسة، ومنازل الوحي، وآثار النبوة منذ أبي الأنبياء إبراهيم إلى خاتمهم محمد × ثم مدارج الصحابة رضي الله عنهم، التي تهب على المسلمين منها روح الإخلاص، والبذل، والعطاء والانقياد المطلق لأمر الله عز وجل. [المنهاج القرآني في التشريع، 465].
ومن ناحية أخرى فالحج نظام يوجب على الجميع زيًا واحدًا، وحركة واحدة، وكلمة واحدة، وطاعة واحدة. وبتثبيت الاعتقاد، والأخلاق وإصلاح الاجتماع تأخذ العبادات الإسلامية دورها العظيم في بناء الحياة الإنسانية على أرفع القواعد، وأنبل الغايات، وأكرمها وأطهرها، وتأخذ بالإنسان إلى أفق أرفع من التراب والطين، ومتاع الحياة الفانية، حيث تربطه بالحي الباقي، وبالنعيم الخالد، فهي غسيل مستمر لأدران المادة، وتهذيب لطغيانها، وعبادات الإسلام تقوم في أساسها على مراعاة الرقابة الإلهية، وابتغاء الآخرة، دون واسطة بين العبد وربه في العبادات كلها وتحرر الإنسان من عبودية الكهنوت وطقوسها ورسومها.
إن تقرير حقيقة العبودية في حياة الناس يصحح تصوراتهم ومشاعرهم، كما يصحح حياتهم وأوضاعهم، فلا يمكن أن تستقر التصورات والمشاعر، ولا أن تستقر الحياة والأوضاع، على أساس سليم قويم، إلا بهذه المعرفة وما يتبعها من إقرار، وما يتبع الإقرار من آثار عندما تستقر هذه الحقيقة بجوانبها في نفوس الناس وفي حياتهم يلتزمون بمنهجه وشريعته ويستشعرون العزة أمام المتجبرين والطغاة، حين يخرون لله راكعين ساجدين يذكرونه ولا يذكرون أحدًا إلا الله تصلح حياتهم وترقى وتكرم على
هذا الأساس.
إن استقرار هذه الحقيقة الكبيرة في نفوس المسلمين وتعليق أنظارهم بالله وحده، وتعليق قلوبهم برضاه، وأعمالهم بتقواه، ونظام حياتهم بإذنه وشرعه ومنهجه دون سواه.. في هذه الحياة.. فأما ما يجزي الله به المؤمنين المقربين بالعبودية العاملين للصالحات في الآخرة، فهو كرم منه وفضل في حقيقة الأمر وفيض من عطاء الله. [في ظلال القرآن، سيد قطب، 2/820].
إن الذين يستنكفون عن عبودية الله، يذلون لعبوديات من هذه الأرض لا تنتهي.
يذلون لعبودية الهوى والشهوة، أو عبودية الوهم والخرافة، ويذلون لعبودية البشر من أمثالهم، ويحنون لهم الجباه.. ويحكمون في حياتهم وأنظمتهم وشرائعهم وقوانينهم وقيمهم وموازينهم عبيدًا من البشر هم وهم سواء أمام الله.
المراجع:
- فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم، د. علي محمد الصلابي.
- في ظلال القرآن، سيد قطب.
- المنهاج القرآني في التشريع، د. عبد الستار فتح الله سعيـد، مطابع دار الطباعة الإسلامية، الطبعة الأولى 1413هـ، 1992م.