لكل علم أهله.. والحكم الشرعي في المطعومات للفقهاء وليس لخبراء التغذية
هوية بريس – د.رشيد بنكيران
في سياق ما تعج به مواقع التواصل الاجتماعي هذه الأيام من هرطقات صبيانية تسعى إلى إقصاء الفقهاء والمحدثين، وعلماء الدين عموما، عن مجالهم المتخصصين فيه، فُرضت علي مقارنةٌ أثناء قراءتي لترجمة ابن رشد الحفيد؛
مقارنة بين عالم بحق يحترم مجالات العلوم باختلاف أنواعها، ويقدر أهلها والمشتغلين بها،
وبين عالم!!! لا يحترم التخصصات ويتهكم على الفقهاء والمحدثين.
ابن رشد الحفيد: هو أبو الوليد محمد القرطبي مولدا المراكشي وفاة (ت 595هج)، كان عالما في الطب والرياضيات والفلسفة، اشتهر لدى الغرب بـAverroes واعترفوا له بعبقريته وعلو كعبه في علوم عدة، منها علوم محضة ومنها علوم إنسانية، وكان ابن رشد كذلك قاضيا وفقيها، ومن أشهر كتبه الفقهية “بداية المجتهد ونهاية المقتصد”.
في هذا الكتاب يعرض الطبيب والرياضي والفيلسوف ابن رشد مبحث المطعومات؛ ما يحل منها شرعا وما يحرم.
ولأنه عالم بحق – متمكن من تخصصاته المعرفية ويعرف للعلوم حقوقها كونية كانت أو غير كونية – حينما أراد أن يتحدث عما أحله الله من الأطعمة وما حرمه، لم يخرج عن منهج الفقهاء لغة ومسلكا واستدلالا؛ رجل بحق يحترم المجالات المعرفية ولا يسمح بالفوضى فيها، ويقرر بلسان الحال أنه لا سبيل إلى المعرفة الشرعية والفقهية إلا عن طريق أهلها.
يقول ابن رشد في كتاب الأطعمة والمشروبات من بداية المجتهد ونهاية المقتصد (3/17):
“الجملة الأولى:
والأغذية الإنسانية نبات وحيوان.
فأما الحيوان الذي يغتذى به، فمنه حلال في الشرع، ومنه حرام. وهذا منه بري ومنه بحري. والمحرمة منها ما تكون محرمة لعينها، ومنها ما تكون لسبب وارد عليها.
وكل هذه، منها ما اتفقوا عليه، ومنها ما اختلفوا فيه”. اهـ
✓ قلت: المقصود بمن اتفق واختلف في الأغذية من الحيوانات في كلام ابن رشد هم الفقهاء، أصحاب المذاهب الأربعة؛ أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد…، وليس الأطباء أو الرياضيين أو الفيزيائيين وعلماء التغذية؛ لأنه لا عبرة باتفاق هؤلاء أو اختلافهم في تحديد مفهوم الحلال والحرام، ولو كان لكلامهم قيمة معرفية في تحديد ذلك لذكرهم ابن رشد وهو الطبيب والرياضي.
ثم يكمل ابن رشد كلامه ويقول:
“فأما المحرمة لسبب وارد عليها فهي بالجملة تسعة:
الميتة، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، وكل ما نقصه شرط من شروط التذكية من الحيوان الذي التذكية شرط في أكله، والجلالة، والطعام الحلال يخالطه نجس.
فأما الميتة فاتفق العلماء على تحريم ميتة البر، واختلفوا في ميتة البحر على ثلاثة أقوال:
فقال قوم: هي حلال بإطلاق، وقال قوم: هي حرام بإطلاق، وقال قوم: ما طفا من السمك حرام، وما جزر عنه البحر فهو حلال.
وسبب اختلافهم تعارض الآثار في هذا الباب، ومعارضة عموم الكتاب لبعضها معارضة كلية، وموافقته لبعضها موافقة جزئية، ومعارضة بعضها لبعض معارضة جزئية.
فأما العموم فهو قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة}. وأما الآثار المعارضة لهذا العموم معارضة كلية فحديثان، الواحد متفق عليه، والآخر مختلف فيه”. اهـ
✓ قلت: تأمل قول ابن رشد حينما تحدث عن الأدلة التي اعتمدت على الأحاديث النبوية، كيف وظف لغة المحدثين؛ “فحديثان، الواحد متفق عليه، والآخر مختلف فيه”، يشير بذلك إلى علم الرواية والدراية، هذا العلم الذي يبنى على دراسة السند ورواته؛ حدثنا فلان عن علان عن فلان…، ولم يسفه هذا العلم الدقيق، ولا قال ما علاقة “عن فلان عن علان” بالتغذية…، كما يفعل من لا يحترم نفسه ولا المتلقي ولا التخصصات العلمية.
ثم تحدث ابن رشد بتفصيل في الأطعمة المحرمة لعينها المختلف فيها، فقرر أنها أربعة أجناس، وقال:
“وأما الجنس الرابع، وهو الذي تستخبثه النفوس #كالحشرات والضفادع والسرطانات والسلحفاة وما في معناها – فإن الشافعي حرمها، وأباحها الغير، ومنهم من كرهها فقط.
وسبب اختلافِهم اختلافُهم في مفهوم ما ينطلق عليه اسم الخبائث في قوله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث}؛ فمن رأى أنها المحرمات بنص الشرع لم يحرم من ذلك ما تستخبثه النفوس مما لم يرد فيه نص، ومن رأى أن الخبائث هي ما تستخبثه النفوس قال: هي محرمة”. اهـ
✓ قلت: تأمل كذلك حينما تحدث ابن رشد عن الحكم الشرعي في #أكل_الحشرات…؛ لم يقل ما دخل الفقهاء في ذلك، وهو الطبيب الموسوعي، بل نقل خلاف الفقهاء في حكم أكلها بناء على النصوص الشرعية وليس على المختبرات وتحاليلها.
واعلم أيها المسلم أنه لا تعارض بين مهمة الفقيه ومهمة الطبيب أو الخبير في مجال التغذية، فإن الطبيب أو الخبير إذا ثبت لديه أن طعاما ما ضار بجسم الإنسان بناء على التجربة والملاحظة العلمية، فإنه ينقل ما توصل إليه من نتائج علمية للفقيه ليقرر الحكم الشرعي المناسب له. وكل من توهم وجود تعارض بين مهام العلماء وأدوارهم على اختلاف تخصصاتهم أو افتعل هذا التعارض فمرده إلى جهل مركب لديه بحقيقة العلوم ومراتبها.
واعلم كذلك أيها المسلم: أنه لو سألت طبيبا أو عالم تغذية هل الطعام الفلاني حلال أم حرام، وأجابك بناء على علم الطب أو علم التغذية فقط ولم يكن فقيها، فقد ضل وأضل. أما أنت فقد أخطأت الطريق، ومن يرد الله به خيرا يفقه في الدين.