انتهينا في الجزء السابق إلى المقام السادس من مقامات القلب السعيد، وهو “ضرورة لزوم الجماعة ونبذ الفرقة”، انطلاقا من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الاِثْنَيْنِ أَبْعَدُ. مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ“. وتبينا أن يد الله على الجماعة، وأن تآلف المسلمين واندماجهم في مجتمع السلم والطمأنينة إحدى قواعد الإسلام، وأن ما يعيشه المسلمون اليوم من تفرق واختلاف مخالف لتعاليم شرعنا الذي يريدنا أمة واحدة، مترابطة الأوصال، متكاملة الأدوار، بنيانا مرصوصا يشد بعضه بعضا، ويؤازر بعضه بعضا.
ونريد -اليوم إن شاء الله تعالى- أن نطرق آخِر مقام يدل عليه حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- ، الذي كان منطلقنا في هذه المقامات، وهو مقام “السرورِ بفعل الحسنة، والاستياءِ من اقتراف السيئة”، حيث يقول -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ، وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ، فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ“.
إن المؤمن الحق، يسعد بأعماله الصالحة ويفرح بها، لا على جهة الغرور أو العجب، وإنما شكرا لله على توفيقه وتسديده، إذ هناك قوم يستوي عندهم فعل الحسنة وفعل السيئة، فتستولي الغفلة على قلوبهم، ويَضرب الاستخفاف بالدين على عقولهم، فلا تتغير نفوسهم لرؤية المنكر أو اقترافه، ولا يفرحون لرؤية الخير أو العمل به، مما يدل على نقص الإيمان وضعفه.
إن المؤمن يَوْجل من فعل الصالحات أن لا تتقبل منه، ويتهم نفسه بالتقصير في جَنْبِ نِعَمِ الله العديدة. قال تعالى: “وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ“. قال ابن كثير -رحمه الله-: “أي: يُعطون العطاء وهم خائفون ألا يُتقبل منهم، لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشروط الإعطاء”. عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)، أَهُوَ الرَّجُلُ الَّذِى يَزْنِي، وَيَسْرِقُ، وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ؟ قَالَ: “لاَ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُ، وَيُصَلِّي، وَهُوَ يَخَافُ أَنْ لاَ يُتَقَبَّلَ مِنْهُ” صحيح سنن ابن ماجة. هذا وهو يقوم بالأعمال الصالحة، فكيف حال من تلبس بالموبقات، واستمرأ السيئات؟.
إن المؤمن يتأمل في ما أحاطه الله – تعالى – به من نعم وفيرة، وعطايا جزيلة، ومنن غزيرة، فيستصغر كل عملِ خير قام به، ويشفق على نفسه خوفا من التقصير. قال الحسن البصري -رحمه الله-: “إن المؤمن جمع إحسانا وشفقة، وإن المنافق جمع إساءة وأمنًا”. وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: “إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به هكذا، (وأشار بيده فوق أنفه)” البخاري.
والمؤمن – وإن اقترف المعاصي – يستولي عليه الخوف من الله تعالى، فيتوب إليه، ويكثر الاستغفار، والمتهاون يستصغر ذنبه، ولا يستعظم العقوبة. قال ابن الجوزي -رحمه الله-: “إنما كانت هذه صفةَ المؤمن، لشدة خوفه من العقوبة، لأنه على يقين من الذنب، وليس على يقين من المغفرة، والفاجر قليل المعرفة بالله، فلذلك قل خوفه، فاستهان بالمعاصي”.
وإذا كان المؤمن يستاء من ذنوبه، فقد حُق له أن يفرح بأعماله الصالحة الخالصة، التي لم يقصد بها سمعة ولا رياء، ولو مدحه الناس من أجلها. بل جعل النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك من البشرى المعجلة للمؤمن في الدنيا قبل الآخرة. فتحت باب: “إِذَا أُثْنِيَ عَلَى الصَّالِحِ فَهِيَ بُشْرَى وَلاَ تَضُرُّهُ“، روى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْرِ، وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ (وفي رواية “وَيُحِبُّهُ النَّاسُ عَلَيْهِ“. وفي لفظ عند أحمد :”وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ بِهِ“). قَالَ: “تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ” مسلم. قال السيوطي -رحمه الله- :”أي: هذه البشرى المعجلةُ دليل للبشرى المؤخرة إلى الآخرة”، كاستبشاره بأن يشرح الله صدره للعمل الصالح، فتكتنفه السكينة عند القيام بهذا العمل، وتلفه الراحة والطمأنينة. ولهذا كانت الصلاة قرة عين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان يقول لبلال: “يَا بِلاَلُ، أَقِمِ الصَّلاَةَ أَرِحْنَا بِهَا” صحيح سنن أبي داود. وكاستبشاره بالرؤيا الصالحة يراها أو تُرى له. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “الرؤيا الحسنة هي البشرى، يراها المؤمن أو تُرى له” صحيح الجامع.
فعاجل بشرى المؤمن شيء يلقيه الله في قلوب أهل الخير من الناس، لا يمكن رده ولا دفعه، فيترجمونه ثناء له وتقديرا، واحتراما وذكرا جميلا، لما يرونه فيه من إخلاص في العبادة، وتفان في الزهادة، واستقامة في الأعمال، وثبات على الإيمان مع تقلب الأحوال. فشهادة الناس -هذه- مما يَسُر ويُفرِح، كما قال تعالى: “قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ”. ويدل عليه -أيضا- قوله -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ. ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ“. زاد الترمذي: فَذَلِكَ قَوْلُ الله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا“. قال النووي -رحمه الله- :”وَمَعْنَى (يُوضَع لَهُ الْقَبُول فِي الْأَرْض) أَيْ: الْحُبّ فِي قُلُوب النَّاس، وَرِضَاهُمْ عَنْهُ، فَتَمِيل إِلَيْهِ الْقُلُوب، وَتَرْضَى عَنْهُ”. ثم قال: “هَذَا كُلّه إِذَا حَمِدَهُ النَّاس مِنْ غَيْر تَعَرُّض مِنْهُ لِ-حَمْدِهِمْ، وَإِلَّا فَالتَّعَرُّض مَذْمُوم”.
فالناس شهداء الله في الأرض، من أجمعوا على الثناء عليه، من غير خوف أو طمع، فهي شهادة حق. فعن أَنَس بْن مَالِكٍ -رضي الله عنه- قال: مَرُّوا بِجَنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: “وَجَبَتْ“. ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: “وَجَبَتْ“. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-: مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: “هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ الله فِي الأَرْضِ” متفق عليه.
وقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: “إِذَا سَمِعْتَ جِيرَانَكَ يَقُولُونَ: قَدْ أَحْسَنْتَ، فَقَدْ أَحْسَنْتَ، وَإِذَا سَمِعْتَهُمْ يَقُولُونَ: قَدْ أَسَأْتَ، فَقَدْ أَسَأْتَ” صحيح سنن ابن ماجة.
وأبق لك الذكر الجميل تدم به***فما لسوى الذكر الجميل بقاء
لقد كان السلف الصالح يداومون على العمل ولا يغترون، ويتفانون في العبادة ولا يفترون.
قال عبدالرحمن بن مهدي: “لو قيل لحماد بن سلمة: إنك تموت غداً، ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً”. قال الذهبي: “كانت أوقاته معمورة بالتعبد والأوراد”.
وكذلك كان شيخ الإسلام أبو الحارث القرشي المدني الفقيه. قال عنه تلميذه الواقدي: “وكان يصلي الليل أجمع، ويجتهد في العبادة، ولو قيل له: إن القيامة تقوم غدا، ما كان فيه مزيد من الاجتهاد”.
وكان ابن عقيل يقول: “إني لا يحل لي أن أُضيِّع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره”.
وقال الإمام ابن جماعة -رحمة الله عليه-: “لا يَغترَّ بِخُدَع التسويف، فإن كل ساعة تمضي من عمره لا بَدَلَ لها ولا عِوض عنها”.
فمع فرح المؤمن بعمله الصالح، وكثرة ثناء أهل الخير عليه، تراه متحفزا للمزيد، مواظبا على نوافله، ورواتبه، ورغائبه، ثابتا على حزبه وأوراده، لا يؤجل عبادته إلى غد، ولا يمنعه التعب من تسويف العمل الصالح.