استراتيجية الإسلام (18).. العدل – العدل الأول
هوية بريس- محمد زاوي
5- العدل
– العدل الأول
ساد العدل قبل أن تتفاوت المنازل الاجتماعية بين الناس، التعاون قبل تشكل علاقات السيطرة؛ فألِف الإنسان حياة الجنة قبل أن يخرج منها.. “ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما، وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى، فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، وإن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى، فوسوس إليه الشيطان، قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى، فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وعصى آدم ربه فغوى، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى، قلنا اهبطا منها جميعا، بعضكم لبعض عدو، فإما ياتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى” (سورة طه، من الآية 115 إلى الآية 124). وهذا خروج من الجنة (جنة الطبيعة) بيد الإنسان، بعد خطيئة أولى اقترفها، فعصى بها أمر الله في الطبيعة (“ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين”/ سورة البقرة، الآية 35). أما خروجه الثاني من جنة أخرى (جنة لا ملكية فيها/ المقصود “الملكية الخاصة”)، فقد جاء متأخرا بعد خطيئة ثانية اقترفها الإنسان (بما للاقتراف هنا من معنى موضوعي)، فعصى بها أمر الله في الاجتماع (“كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم”/ سورة الحشر، الآية 7).
ولما كان الإنسان إلى جنته الأولى أشد حنينا، فقد كانت مثالا له يستحضره زمن التفاوت، يدعو إليه ويرجوه.. في التفاوت شقاؤه، وفي الجنة سعادته.. فيه موته، وفيها بقاؤه.. فيه ندرته، وفيها وفرته.. فيه عنفه، وفيها سلمه وسلامه.. فيه ظلمه، وفيها عدله.. فيه كدحه، وفيها راحته.. “طوبى” بعيدة عوضها الإنسان بآمال قريبة، ب”خلافة” في المشروع الإسلامي، “نهاية التاريخ” في المشروع الليبرالي، “شيوعية” في المشروع الماركسي..
وقد ذكر الله تعالى في القرآن أنبياء لم يكن لهم صراع مع صاحب سلطان؛ لم يصارعوا في أقوامهم أصحاب النفوذ، بل نوازع الشر (لوط) وقوى الطبيعة (نوح).. إن الوقوف عند قصتي نوح ولوط كفيل بإبراز الشرط الجوهري لمرحلتهما، وهي مرحلة ملئت حنينا بالرجوع إلى جنة آدم، فجعلت من هذا الحنين دافعا لمواجهة نوازع الشر وقوى الطبيعة، فكانت الدعوة إلى الدين.. فمن عصى خاب في الأرض، وكان العقاب المادي جزاء له في الأرض.
* شرط نوح عليه السلام:
قصته مع قومه أنهم عصوا أمر الله فأبوا أن يؤمنوا به (“قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين”/ سورة الأعراف، الآية 60)، فلما توعدهم بالطوفان أخذتهم العزة بكفرهم وأبوا أن يركبوا معه في الفلك المشحون (“وأوحي إلى نوح أنه لن يومن من قومك إلا من قد آمن، فلا تبتئس بما كانوا يفعلون، واصنع الفلك بأعيننا ووحينا”/ سورة هود، الآيتان 36 و37)، بل سخروا منه غير آبهين بما ينتظرهم من أمر الله في الطبيعة (“وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه”/ سورة هود، الآية 38).. ولشدة تعلقهم بكفرهم فقد أعيى نوحا نصحُهم (“قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا”/ سورة هود، الآية 32)، فلما استحالت التوبة (التغيير) كان العذاب من جنس العمل، عصيان لأمر الله في الطبيعة وعذاب من قانون الطبيعة (“إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين”/ سورة الأنبياء، الآية 77).. ولما كانت قصة نوح ذات أهمية في تاريخ الإنسان، بها يعرف حقيقة مرحلة “العدل بين الناس وعصيان أمر الله في الطبيعة”، فقد ذُكرت في مواضع شتى من القرآن، في “الأعراف” و”يونس” و”هود” و”الأنبياء” و”المؤمنون” و”الفرقان” و”الشعراء” و”العنكبوت” و”الصافات” و”الذاريات” و”القمر” و”التحريم”.. كما أن التوقيف في أسماء السور جاء بتسمية سوء باسمه “نوح”.
* شرط لوط عليه السلام:
قلب قوم لوط “فطرة الله التي فطر الناس عليها”، بأن كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء (“إنكم لتاتون الرجال شهوة من دون النساء، بل أنتم قوم مسرفون”/ سورة الأعراف، الآية 81) ؛ دعاهم لوط إلى سلامة الفطرة فما استجابوا لأمر الله في خَلقه (“قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق، وإنك لتعلم ما نريد”/ سورة هود، الآية 79)؛ وجزاءً لهم قلب الله بهم الأرض (“فجعلنا عاليها سافلها، وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل”/ سورة الحجر، الآية 74)، وما أخرجوا لوطا منها (“وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم، إنهم أناس يتطهرون”/ سورة الأعراف، الآية 82)، بل خرج منها بأمر ربه (“لننجينه وأهله، إلا امرأته، كانت من الغابرين”/ سورة العنكبوت، الآية 32).