حسان بن عابد: دردشة بخصوص الغواصة الغارقة OceanGate، وعلاقة الأمر بنظرية التطورّ!
هوية بريس – الدكتور حسان بن عابد
لا شك أنه بلغكم خبر انسحاق الغواصة التي حاولت زيارة بقايا حطام سفينة تيتانيك في المحيط الأطلسي على عمق 3800 مترا، وأعتقد أننا يجب أوّلا أن نفهم الظروف البحرية المصاحبة لهذه المغامرة الصعبة في المحيط الأطلسي الذي يسمّى ببحر الظلمات!
كثير من الناس يعتقدون أنّ الغوص في البحر سهل كوضع أقدامهم في مسبح البيت، والحقيقة أنّ الضغط على سطح البحر يساوي واحد جو Atmosphere (إنها وحدة قياس الضغط، وتساوي تقريبا واحد كيلوغرام مطبّقا على السنتيمتر المربع) . . . بينما يتغير هذا الضغط مع الغوص بحيث أنّ الضغط يتضاعف كلّما نزلنا عشرة أمتار، إذن بجوار حطام التيتانيك يكون الضغط الذي تتعرض له الغوّاصة هو 380 ضعفا قيمة الضغط الذي تواجهه على سطح البحر، وهو ضغط فضيع مطبق على كلّ جوانبها . . . طيّب من أين يأتي هذا الضغط؟ هو ببساطة ثقل الماء المطبِق على المركبة، كلّما زاد العمق زادت كمية المياه فوقها . . . ولا ننسى الحرارة كذلك فإنّ قاع المحيط بارد جدا لأنّ أشعة الشمس لا تصل إلى هناك، ولأنّ المهندسين يعلمون كلّ هذا فإنّ الغواصات الحربية والغواصات الإستكشافية الآلية تصمّم بطريقة خاصة ومواد شديدة الصلابة لمقاومة الضغط، وإلا فإنّ المركبة ستسحق تماما!
وهناك مركبات بحرية معدودة على أصابع اليد نجحت في زيارة حطام التيتانيك وأعمق منه، مثل مركبة ليميتين فاكتور DSV Limiting Factor لشركة تيتون ومركبة جايمس كاميرون صانع الأفلام الوثائقية المعروف، بعد تمويل ضخم ودعم من البحرية العسكرية ومشاركة مئات العلماء وبقيود كثيرة أبرزها قصر الوقت الذي قضوه في الأسفل خوفا من نفاذ الأكسجين!
كان مشروع Oceangate عبارة عن شركة ناشئة، وتصميم غواصتهم بسيط بدون أنظمة حماية متقدّمة ولا تمويل أو دعم من البحرية العسكرية، ولا تقارن إطلاقا بالغواصات الحربية، ولهذا كان الفشل هو مصيرهم الحتمي . . . لكن إلى أيّ عمق تنزل الغواصات الحربية؟ عادة لا تتجاوز 500 مترا فقط، مع أنها مصمّمة ببراعة وفيها خزانات أكسجين ضخمة ومحركات تعمل بالطاقة النووية، وقد علم مهندسوها تمام المعرفة حدود طاقاتهم وعِظم المحيط!
طيّب ماعلاقة الأمر بنظرية التطوّر؟ تنصّ هذه النظرية على أنّ الحوت ليس إلا حيوانات بريا يشبه الثعلب بقي يغوص في المياه الضحلة تدريجيا لملايين السنين حتى جمع عددا كافيا من الطفرات التي منحته شكل الحوت!
وحتى نفهم معقولية هذا السيناريو يجب أن نحصي الخصائص التشريحية المميّزة لجسم الحيتان، فنخرجَ بفكرة تقريبية عن عدد الأشكال الانتقالية الواجب العثور عليها .. لماذا الحيتان تحديدا؟ لأنّ الحيتان لا تغوص إلى عمق 3800 مترا بجوار التيتانيك فقط، بل تغوص إلى أعمق نقطة بحرية في الكرة الأرضية وهي في خندق ماريانا Mariana Trench في المحيط الهادي وعمقها 11000 مترا يعني ثلاث مرات عمق حطام التيتانيك، ويتعرض جسم الحوت في هذا العمق المهول إلى ألف ضعف قيمة الضغط على سطح البحر، ومع ذلك يعود سالما رغم أنه مخلوق ثديي له رئة، فكيف يحبس أنفاسه في هذه الأعماق لساعات؟!
وبصراحة فقد استمتعتُ أثناء عرضي لأبرز المميّزات التشريحية والجزيئية للحيتان في كتابي ❞النظرية التركيبية الحديثة: دراسة نقدية في ضوء المستجدات العلمية❝، فكان منها أنّ جدران الأوعية الدموية وكثافة العظام وهيكل العينين والشبكية وبنية الجلد مجهّزة للتعامل مع الضغط الكبير في الأعماق، والأمر كذلك بالنسبة لقلب الحوت وكليتيه وجاهزه التكاثري والغددي والهضمي ونسيجه العضلي المناسب لتخزين الأكسجين بكفاءة عالية، وأيضا قدرة الحوت على التحكم البارع في تدفق الدم إلى الأعضاء واقتصاد الأكسجين في أوقات الحاجة، ولا أنسى ذكر أحد أغرب مميّزات الحوت وهي قدرته على النوم بنصف دماغ وعين واحدة Unihemispheric Sleep، بينما يبقى النصف الثاني من دماغه يعمل متصلا بالعين الثانية لمراقبة البيئة المحيطة به، ويبدل الوضع بعد ساعات ليرتاح النصف الآخر من الدماغه والعين المتصلة به!
هذه أبرز الصفات التشريحية للحيتان التي تسمح لها بالغوص إلى أعمق نقطة في المحيط، ولو أردنا إحصاءها جميعها فسنحتاج لمئات الكتب، لكن ما ذكرناه كافٍ للقول أنّ هذه التعديلات المتناسقة لو أنها نشأت بفعل الطفرات العمياء لاستغرق الأمر زمنا أكبر من زمن كوننا (14 مليار سنة تقريبا) وعددا لا يحصى من الأشكال الانتقالية والتجارب الطبيعانية والإخفاقات، ولا أثر لحدوث ذلك.
كلّ من يحترم عقله سيعترف بأنّ هذا الكائن الذي تفوّق على التقانة البشرية المتقدمة لم ينشأ تلقائيا بالآلية التطورية السخيفة، بل أبدعه خالق مطلق الحكمة كما أبدع ملايين الأنواع الحية الفريدة وأبدع هذا الكونَ الشاسع.
(أَوَ لَمۡ يَتَفَكَّرُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۗ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمّٗى وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمۡ لَكَٰفِرُونَ) الروم/8.