وظيفة العلماء في حماية المجتمع من الموبقات والمنكرات
هوية بريس – د.يوسف فاوزي
إن من محاسن الإسلام أنه دين العلم، فلا تقرير لأحكامه إلا بعلم، ولا يعبد سبحانه إلا بعلم، وهذا العلم جعله سبحانه ميراث أنبيائه الذي حصل على شرف الحصول عليه العلماء، فلذلك كانت منزلة العلماء في الإسلام منزلة رفيعة ومكانة عالية، وكانت وظيفتهم في المجتمع وظيفة سامية حتى جعلهم الشرع في منزلة الحكام والملوك.
وهذا ما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ) [النساء:59]، قال العلامة الطاهر بن عاشور (قال مالك: «أولو الأمر: أهل القرآن والعلم» يعني أهل العلم بالقرآن والاجتهاد، فأولو الأمر هنا هم من عدا الرسول من الخليفة إلى والي الحسبة، ومن قواد الجيوش ومن فقهاء الصحابة والمجتهدين إلى أهل العلم في الأزمنة المتأخرة، وأولو الأمر هم الذين يطلق عليهم أيضا أهل الحل والعقد)، [التحرير والتنوير 5/98].
فالعلماء يقومون اعوجاج الدولة -حال حصوله- بنور الشرع المحمدي، فكانت وظيفتهم لا تقل شأنا عن وظيفة الحكام والأمراء، وعلى هذا سارت أنظمة الحكم في البلدان المسلمة مذ عهد النبوة إلى زماننا هذا، فالمغرب مثلا قامت دولته على تقديم العلماء وإشراكهم في وظيفة وتسيير الشأن العام، ومن الأدلة على هذا ما جاء في فتوى المجلس العلمي الأعلى حول “المصلحة المرسلة في علاقتها بقضايا تدبير الشأن العام” حيث جاء فيها ما نصه:
(ومهمة العلماء في هذه الدولة هي أن يمثلوا جهة الخبرة القادرة على الدلالة على مراد الشرع، وهم يؤدون عملهم من موقع تأهلهم العلمي وقدرتهم على الكشف عن الحكم الشرعي، لا من موقع تفردهم بخصوصية معنوية تمنحهم سلطة دينية لا تراجع. وأقوالهم معرضة للانتقاد وللنقض إن أعوزها الدليل الشرعي أو انهارت أمام دليل شرعي أقوى، وقد قال الباقلاني: “إن المسلمين لا يحكمهم معصوم ولا عالم بالغيب”، فمن ثم لم تكن الدولة الإسلامية دولة تيوقراطية ولا دولة تفويض إلهي، وإنما كانت دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية لا غير).
إن هذه الخبرة الشرعية -حسب تعبير نص الفتوى- أهلت العلماء لخوض غمار مناقشة كل المستجدات الطارئة في المجتمع وفي مختلف المجالات، حتى السياسية منها، فمن تخصصات الشريعة ما يسمى بـ” علم السياسة الشرعية” الذي يختص في تنظيم الشأن العام للمسلمين، وهذا ما يكذب دعوى الخطاب العلماني الدخيل على المجتمع المغربي الذي يروج إلى ضرورة الفصل بين ما هو ديني وسياسي، وهذا يكذبه الدور الذي يمارسه ملك البلاد الذي يمثل إمارة المؤمنين، ولقد جاء في الفتوى السالفة الذكر للمجلس العلمي الأعلى ما يرد على هذه النظرية ويبين فسادها، حيث جاء في الفتوى ما نصه:
(إن القول بانفصال الديني عن السياسي في طبيعة الدولة يوقع في إشكال منهجي ويورط في عجز حقيقي عن تحليل الوقائع تحليلا موضوعيا.
اعتبارا لكل الشواهد الواقعية المعبرة عن التلازم الوثيق بين الديني والسياسي في الدولة المسلمة، فإنه من قبيل المماحكة والتمادي في الخطأ أن يدعي أناس أن الرسول لم يعمل إلا على تأسيس دولة دينية لا تختلف عن الدولة التي حكمها داود وسليمان، وهي مباينة للدولة بمفهومها السياسي، والواقع أن هذا القول لا يمثل جهلا بدولة الرسول صلى الله عليه وسلم فحسب، وإنما يمثل جهلا بالواقع التاريخي لدولة داود وسليمان أيضا، ويكفي في الإشارة إلى أن دولة داود وسليمان كانتا دولتين سياسيتين، توجيه الخطاب الإلهي إلى داود بوجوب العدل في الحكم وذلك في قوله تعالى: }يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب{ (ص:26)، وسؤال سليمان ربه أن يوتيه الملك لما قال: “رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي” (ص:35)، وقول الله تعالى: }واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان{، (البقرة:102)، ولقد تصرف سليمان تصرف الملوك لما دعا ملكة سبأ إلى الإيمان به ومتابعته واستقدم إليه عرشها الرامز إلى وجودها السياسي).
إن هذه الفتوى حجة واضحة ضد كل من تخول له نفسه الانتقاص من قيمة علماء المغرب، وتهميش دورهم الريادي في سبيل بناء الأمة فكريا وأخلاقيا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا، فالشريعة دنيا وآخرة، دين وسياسة، كما أنها حجة على العلماء أنفسهم لأن غالبيتهم -للأسف- التزم الصمت وفضل الانعزال وعدم المشاركة في أي نقاش عمومي يستهدف الشأن العام للمغاربة القائم على دينهم الإسلامي.
وعليه فالأمانة التي تقلدها العلماء مسؤولية سيحاسبون عليها أمام الله سبحانه، كما يجب فسح المجال أمام العلماء عبر مختلف المنابر للتعبير عن وجهة نظر الشرع المطهر تجاه النوازل والمستجدات حماية للأمن الروحي وتبليغا للأمانة، وإلا فإن غياب العلماء عن الشأن العام فساده عظيم، وهذا ما تشير إليه فتوى المجلس العلمي الأعلى بقولها: (وتبعا لهذا الوعي، وإضافة إلى ما تقرر في كتب العقيدة عن الإمامة، فقد أنجز العلماء المسلمون دراسات علمية إضافية رصينة عن النظرية السياسية الإسلامية، وهي دراسات تتأسس فيها الحقائق بناء على تمحيص علمي للنصوص الشرعية، وعلى دراسة واعية للتجربة الإسلامية، وعلى رغبة في الحفاظ على مؤسسة الدولة وتجنيب الأمة عوامل التآكل السياسي).
كما أن من مفاسد تقزيم دور العلماء في المجتمع فقدان الناس الثقة بأقوالهم وفتاويهم، وهذا ما سيفتح الباب أم الجهال لتحريف الشريعة وزعزعة عقيدة المؤمن، فلا غرابة أن يسقط الشباب في فخاخ الإرهاب الفكري الداعشي، أو التصوف الطرقي الخرافي، أو الإلحاد، ولا غرابة أيضا أن يستمع الناس لدخلاء على مجال الفتوى والإرشاد الديني، حتى صار -في نظر العوام- العشاب مفتيا، والعاطل مفكرا، والملحد تنويريا، وهذه بوابة الخراب أو “التآكل السياسي” حسب تعبير فتوى المجلس العلمي الأعلى، وهذه هي وظيفة العلماء في حماية المجتمع من الموبقات والمنكرات.
وبالله التوفيق.