لو عظمنا القرآن في نفوسنا ما تجرأ عليه غيرنا
هوية بريس – د.محمد ويلالي
تحدثنا في مناسبة سابقة عن تلكم الواقعة المؤسفة، التي استفزت المسلمين، وأشعرتهم بالإهانة والاستخفاف، واقعة حرق القرآن الكريم وتمزيقه وإهانته.
وحق للمسلمين أن يغضبوا لذلك، وأن يعبروا عن استيائهم وتذمرهم من هؤلاء العتاة المتجبرين، ومن يدور في فلكهم من أذيالهم الذين يعيشون بيننا، ويتكلمون لغتنا.
لكنْ، حُق لنا ـ أيضا ـ أن نتساءل: ألسنا ـ نحن المسلمين ـ نتحمل النصيب الأكبر من إذلال الآخر لنا؟ أليست أخلاقُ كثير منا التي لا تسير في ركاب قرآننا، ومعاملاتُ بعضنا التي تتنافى مع مبادئ ديننا هي السبب الأكبر في استصغارنا والاعتداء علينا؟ هل نحن ـ أنفسُنا ـ قدرنا كتاب ربنا حتى يقدره غيرنا؟ أم أحرقناه بفساد بعضنا قبل أن يحرقه أعداؤنا؟ فهل العيب الحقيقي فينا، أم في شانئنا؟
أرَى حُلَلاً تُصَانُ على أُنَاسٍ * وأخلاقًا تُدَاسُ فَما تُصَانُ
يَقُولُونَ: الزمَانُ بِهِ فَسَادٌ * وهُمْ فَسَدُوا وَمَا فَسَدَ الزَمَانُ
لقد آن الأوان لننظر إلى أنفسنا نظرة محاسبة وتقويم، ونتهم أنفسنا قبل أن نتهم غيرنا، وأن لا نلقي باللائمة ـ فقط ـ على أناس جبلوا على الطعن في ديننا، والفرح باستفزازنا وإذلالنا. والله ـ تعالى ـ يقول: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، ويقول ـ تعالى ـ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا الله يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ).
ـ لن ننصر القرآن، ومنا من يبرئ نفسه ويزكيها، معتقدا أنه ليس طرفا في هذا الواقع، لركيعات يركعها، أو دريهمات يتصدق بها، أو حتى حجات وعمرات يداوم عليها، والله ـ تعالى ـ يقول: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى).
وقد أخرج البخاري من حديث ابن أبي مليكة قال: “أدركت ثلاثين من أصحاب محمد ﷺ، كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إيمانه كإيمان جبريل”.
وقال الفضيل بن عياض ـ رحمه الله ـ: “إذا كان الله يسأل الصادقين عن صدقهم، مثل إسماعيل وعيسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ، فكيف بالكاذبين من أمثالنا؟”. وكان ـ رحمه الله ـ إذا قرأ: (وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)، يقول: “اللهم إنك إن بلوت أخبارنا، فضحتنا وهتكت أستارنا، وأنت أرحم الراحمين”.
وإبراهيم النخعي ـ رحمه الله ـ وهو من أفقه خلق الله وأزهدهم، يتهم نفسه بالتقصير ويقول: “لقد تكلمتُ.. ولو وجدت بدًّا ما تكلمتُ. إن زمانًا أكون فيه فقيه الكوفة، لزمان سوء”.
وكان يونس بن عبيد يقول: “إني لأعد مائة خصلة من خصال البر، ما فيَّ منها خصلةُ واحدة”.
ـ ولن ننصر القرآن، ومنا من يرى النصيحة فضيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فضولا وتدخلا في شؤون الآخرين، والله ـ تعالى ـ إنما لعن بني إسرائيل وذمهم لهذا السبب، فقال ـ تعالى ـ: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).
ـ ولن ننصر القرآن، ومنا من لا تهمه إلا الشهرة والسمعة، يسعى إليهما جهده، ولا يجد غضاضة في أن يداس سلطان القرآن في سبيلهما، المهم أن يقول الناس: نجم رياضي، أو نجم غنائي، أو نجم مسرحي، أو عالِم وفقيه، أو قارئ ومُجَوِّد.. الكل ـ إلا من رحم الله ـ يسعى في حصد الإعجابات، وتكثير المشاهدات، وإغراء الأتباع بالاشتراكات، وما ذلك ـ في الغالب ـ إلا الرياء وحب الظهور، أو ربما حب الجاه وجمع المال. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كلام جميل: “لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس، إلا كما يجتمع الماء والنار.. فازهد في مدح من لا يَزينك مدحُه، وفي ذم من لا يَشينك ذمُّه، وارغب في مدح من كلُّ الزَّيْن في مدحه، وكلُّ الشَّين في ذمه، ولن يُقدَرَ على ذلك إلا بالصبر واليقين. قال ـ تعالى ـ: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)“.
وقال الفضيل بن عياض ـ رحمه الله ـ في كلام نفيس: “إن قدرت ألا تُعْرف فافعل، وما عليك إن لم يُثْنَ عليك، وما عليك أن تكونَ مذمومًا عند الناس، إذا كنت عند الله محمودًا”.
ـ ولن ننصر القرآن، ومنا من يحتقر الضعفاء والصغار، ولا يحترم المسنين الكبار، من يرى نفسه أحسن من غيره، ويظن أن له مننا على الخلائق، تكبرا وتجبرا. وكان بكر بن عبد الله المزني ـ رحمه الله ـ إذا رأى شيخاً قال: “هذا خيرٌ مني، عَبَدَ الله قبلي، وإذا رأى شابًّا قال: هذا خيرٌ مني، ارتكبتُ من الذنوب أكثر مما ارتكب”.
ومن جميل تواضع سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ، أنه قال وهو بمكة، وقد كثر الناس عليه: “ضاعت الأمة حين احتِيج إلى مثلي”.
بل العلماء أنفسهم ما كانوا يحبون أن يفضلهم الناس لعلمهم، مخافة أن يجعلوا الدين مطية للتقدير الزائد عن غيرهم.
فقد دخل ابن محيريز حانوتًا يريد أن يشتري ثوبًا، فقال رجل لصاحب الحانوت: هذا ابن محيريز، فأحسن بيعه. فغضب ابن محيريز وخرج، وقال: إنما نشتري بأموالنا، لسنا نشتري بديننا”.
وكان محمد بن يوسف الأصبهاني ـ رحمه الله ـ لا يشتري زاده من خباز واحد، قال: لعلهم يعرفوني فيحابوني، فأكونَ ممن أعيش بديني”.
لا تَعرِضنَّ بِذِكرِنا مَعْ ذِكرِهِم * لَيسَ الصَّحيحُ إِذا مَشى كَالمُقعَدِ
ـ ولن ننصر القرآن، ومنا من يقرأ قوله ـ تعالى ـ: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، ثم يمر عليها مر الكرام.
مثقال ذرة من عمل السوء، يجده صاحبه بين يديه يوم القيامة، وقد أحصاه من لا تخفى عليه خافية:
قلمٌ يسرقه من مقر عمله، ولا يرى ذلك شيئا.
هاتفُ مكتبه يستعمله في خواص مصالحه.
سيارةُ الخدمة يستعملها في نقل حوائجه.
رابطٌ يحيل على منكر يذيعه.
إعجابٌ أغرى به مغفلة ليوقعها في مصيدته.
وعدُهُ الكاذب بالزواج، وهو يريد غير ذلك.
تغييرُهُ تاريخ المواد الغذائية الفاسدة، وبيعها على أنها ابنة يومها.
تأخيرُهُ مواعيدَ المرضى المحتاجين، وتقديم غيرهم بسبب قرابة، أو رشوة، أو مصلحة شخصية.
جعلُهُ السلعةَ الجيدة في الأعلى، ودسُّ الفاسدة أو الرديئة في الأسفل.
ما يخطُّهُ قلمُه من ضلالات، وبدع، ومنكرات، وما يواجهُ به أحاديث الرسول ﷺ الصحيحة لتبخيسها وإبطال العمل بها.
نورُ القرآن لم يدخل بيتهُ، لأنه هجر قراءته، وتنكب تعاليمه وهدايته، والله ـ تعالى ـ يقول: (وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)..
أصحاب هذه الأعمال وأمثالهم، هم من أحرقوا القرآن على الحقيقة، فلا نحمل الزمان، أو الغرب، أو الشرق ـ فقط ـ مآسيَنا، ونكباتنا، وتخلفنا، ونكدَ عيشنا، فنحن الذين صنعنا هذا الزمان الرديء بأيدينا، وبنيناه بسوء أفعال كثير منا، فنحن الذين شجعنا أعداءنا على أن يكيدوا لنا، ويحيكوا المؤامرات ضدنا. ولو عظمنا القرآن في نفوسنا، ما تجرأ عليه غيرنا. (إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).
نوِّر جبينك فـي هـدى القـرآن * واقطف حصادَك بعد طول نضالِ
واسلُكْ دروبَ العارفيـن بهمـة * والـزَمْ كتـابَ الله غيـرَ مبـالِ
فَهْوَ المعينُ على الشدائـد ِ وطـأةً * وَهُوَ المهيمنُ فوق كـل مجـالِ
وَهُوَ الشفيعُ على الخلائق ِ شاهـدٌ * في موقف ٍ يُنجِي منَ الأهـوالِ
قرآنُنـا سيظـل نـورَ هـدايـةٍ * دستـورَ أمتِنَـا مـدى الأجيـالِ
نُـورٌ تَكَفَّلـهُ الإلـهُ بحفـظـهِ * مِـنْ أن تَنَاولَـه يَـدُ الأنـذالِ