مأزق الثقافة أو ثقافة المأزق
هوية بريس – إبراهيم الناية / أستاذ سابق لمادة الفلسفة
قد يبدو السؤال وجيها :ماذا نعني بثقافة المأزق؟ واي فكر يكون جسرا مؤديا لها؟ وما هي تجليات هذه الثقافة؟ وما آثارها على الواقع النفسي والحياتي لمعتنقها ؟.
قد يتبنى الإنسان نمط فكريا معينا او اسلوب حياة ويظل مستميتا في الدفاع عنه رافضا ما عداه ويقضي اطول فترة من عمره في ذلك السياق ويتحمل كل عناء الأمراض والتمزق والاضطراب الى أن يصل الى لحظه لم يعد قادرا السير على ذلك النهج. وهنا تبدو التساؤلات: ما الحل؟ وكيف يمكن الخروج من المأزق؟ إن كل ثقافة تأسست على النزوات والأهواء ولم ترتكز في قيامها على التعقل والقراءة العلمية الواعية للوجود المبنية أولا على الإيمان بالله سبحانه، لا يمكن ان تستمر بل ستولد عند معتنقها الحيرة والشك ويظل طيلة حياته يعيش حالة التربص واليأس ولم ينعم يوما بالطمأنينة والسكينة مما سيحتم عليه الترحال او النهاية الكئيبة. والمتأمل لتاريخ الثقافة الغربية وتحديدا الجانب الفلسفي منها يصادف حالات كانت مثيرة للجدل ولكن نهاية حياتها لم تكن سعيدة فنيتشه الذي نادى بالإلحاد لكن اليأس والتشاؤم سيطران على حياته ،حيث أمضى أكثر من عقد من الزمن في حالة اختلال عقلي. كما هيمن اليأس على( جاكوت مورنوه) رائد مدرسة التفسير الاجتماعي في الولايات المتحدة حيث انتحر بطريقة بشعة. وفي فرنسا سيصاب أحد المنظرين الكبار للفكر الماركسي (لويس التوسير) بأزمة عصبية أدت به إلى قتل زوجته وكانت نهايته داخل مستشفى الأمراض العقلية .فمسألة الحيرة التي يعيشها الإنسان في الغرب لم تستطع المذاهب الفكرية تقديم حلول علاجية لها او على الأقل تخفيفها ،سيما أن كثيرا من فلاسفة الغرب قد تميزت اطروحاتهم بالجحود والمكابرة ، وقد بلغت الأزمة أو المأزق مداه عند (جون بول سارتر) أحد ممثلي الجناح الملحد في الفلسفة الوجودية الذي كان يقول إن الله تكلم ثم صمت، فعندما كان سارتر يحتضر “طلب ان يؤتى له بقسيس قرية، قال لأنني لا أميل أن يأتيني كاردينال لأني أعتقد أنه نبي مغشوش، أريد قسيسا ،وجاءوا اليه بهذا الرجل البسيط ليعطي له الغفران أو الاعتراف وأعلن حينما سئل الى اين قادتك فلسفتك؟ قال :فلسفتي قادتني في النهاية الى هزيمة نكراء”
وهكذا نجد كثيرا من المستلبين في مجتمعاتنا الذين لا يحيطون علما إلا بلون معرفي واحد، يمضون أطول فترة من اعمارهم يجترون مفاهيم تتنافى مع طبيعة خَلقهم ،ولكن عندما يقترب الأجل ويصبحون في مواجهة المصير المحتوم يستيقظون من ذلك السبات وهنا يتفطنون الى أن العمر قد انقضى في العنوان الخطأ، وعليه وعندما يصبح جهلة الخلق يتصدرون المشهد وينشرون ثقافة تزييف المفاهيم والتأويلات الخاطئة واستغفال الناس وبث ثقافة البؤس والقنوط ومحاربة ثقافة الأمل والطمأنينة وحشر مفهوم الإنسان في المأكل والمشرب وبقية مطالب الجسد وكأنه كائن تافه لا كرامة له ولا إحساس له بالمروءة، بل أصبحت الثقافة عند هؤلاء.اسلوب دعاية والمثقف أحد أدوات الاستعمال لتنفيذ ذلك المشروع .
إن المأزق الذي يعيشه هؤلاء هو الهروب الى الأمام والمبالغة في الإنبطاح لمفاهيم الفكر الغربي ولأطروحات التمزق والبؤس، والتأكيد في القول أن الإنسان الأوروبي أكثر ذكاءً من الإنسان المسلم ،وهذا يدل على مدى الانهزام الذي يعانيه هؤلاء، فبدلا من طرح قضايا الفقر والتعليم وتوزيع الثروة وترسيخ قيم الفضيلة والعدل والمساواة راح دعاة التغريب ينشرون أخلاق النذالة والسقوط والتبعية من اجل تخريب المجتمع من الداخل .فعندما تصبح الخيانة عندهم وجهة نظر ، والعهارة حرية شخصية والرشوة احسانا والانبطاح والتبعية مرونة وانفتاحا ،وعدم القيام بالواجب متنفسا والزبونية والمحسوبية والميز بين الناس أمورا تقتضيها طبيعة وتطور المجتمع الحديث، وحرية التعبير جواز مرور للإستخفاف بما يدعو اليه الاسلام فعندئذ يمكن القول أن الفساد أصبح ايديولوجيا عند هؤلاء.
ان هذا النمط الفكري يستند في قيامه على نكران الذات باعتبارها استمرارا للوعي الذي تشكل منذ اللحظة الاولى لبروز رسالة التوحيد فكيف يطلب هؤلاء من غيرهم أن يعترف بهم وهم لا يعترفون بذواتهم، وعليهم أن يعلموا انه مهما قدموا من فروض الطاعة والتبعية للغرب فسينظر اليهم نظرة السيد للعبد وقد ورد عن “هتلر ” : إن احقر الناس عنده هم الذين ساعدوا على غزو أوطانهم .وقد تجسد ايضا مأزق أتباع الثقافة الغربية في ربطهم بين الحداثة والعلمانية ربطا لا خلاص منه، الأمر الذي جعلهم استنادا على هذا المبدأ أن يصدروا الأحكام عن جهل وبدون علم من خلال كلام مرسل بدون حجة ولا دليل وهكذا جرت العادة أن يتحدث البعض في مواضيع لا علم له بها ولا دراية بل يريد البعض ان يعود إلى الجاهلية بإذكاء روح القبلية والعرقية وقد يجاهر بالعنصرية،ويعتبر الإسلام هو العدو الأكبر الذي ينبغي استئصاله من الوجود، وستعتبر الصهيونية قدوة هذا التوجه ونموذجه الذي يستحق الإتباع. وقد بلغ المأزق حدا كبيرا في السقوط المدوي للطبقة السياسية وترهل خطابها وانحداره الى القاع، لأن الخطاب اذا لم يؤسس على بنية علمية وأخلاقية واضحتين سيتآكل ويصبح الابتذال والضحالة سيديْ الموقف.
لكن اين الحل بعد كل هذا ؟ إن مأزق الثقافة الغربية هو الذي قاد گارودي الى اعتناق الاسلام الذي وجد فيه مالم يره في غيره من المنظومات الفكرية التي سادت تاريخ البشر ،لأن الإسلام جاء ليكون منهجا لحياة الناس فالذين يعتقدون ان بإمكانهم تجاوز الاسلام إنما يعيشون حالة الوهم والسراب، فالاسلام جاء وحرر العالم من الوثنية والرق والخرافة ومن عبودية الفكر والجسد، ولذلك عندما يغيب الاسلام عن حياة الناس فستغيب قيم الفضيلة والنبل والاخلاق وستغيب الطمأنينة والسكينة والتعامل الحضاري .ولما حضرت ثقافة الغرب حضرت معها قيم البشاعة والشذود والقراءة الكئيبة والمظلمة للوجود التي تمثل حالة عجز الإنسان عن فهم أسرار الكون. وهكذا انتشرت في ظل الرؤية الإسلامية ثقافة الأصالة والتميز الفكري الواضح المبني على العلم والإيمان في مفاهيم الإقتصاد والسياسة والاجتماع والتربية .