شيئا من المنطق من فضلكم!
هوية بريس – محمد كرم
ليس من عادتي أن أتطرق إلى المواضيع التي تحظى باهتمام الناس قراءة و كتابة و تعليقا و تحليلا في زمن انشغالهم المكثف بها و أفضل العودة إليها في أوقات لاحقة إذا ما استأثرت بفضولي أنا أيضا، و لكن عندما صادفت في بحر الأسبوع الماضي خبرا مفاده أن الهيئة المكلفة بمراجعة مدونة الأسرة استقبلت ضمن المنهجية التي رسمتها لعملها وفدا يمثل الموثقين العصريين بالمملكة بهدف التشاور مع أعضائه شيء ما بداخلي استوقفني. في البداية لم أملك غير إبداء الاستغراب الذي تحول فيما بعد و بشكل تلقائي إلى رغبة في اقتحام النقاش الجاري بحكم حساسية الموضوع و بالنظر إلى أن قانون الأحوال الشخصية و إن لم يكن يعنيني حاليا بشكل من الأشكال فإنه سيعني حتما أبنائي و أحفادي في القادم من السنين بما أنه لا مفر لأي مواطن من الخضوع للقانون.
لم يأت استغرابي من فراغ. فطبيعة دور المنتسبين إلى هذه الفئة المهنية داخل المجتمع معروف، و يعلم العام و الخاص أن تخصصهم لا يرتبط لا بالعلوم الشرعية و لا بالسوسيولوجيا و لا بعلم النفس، و لا أدري شخصيا حتى ما إذا كان لهم حضور في العمل السياسي أو الحقوقي أو الثقافي أو البحثي أو الجمعوي أم لا. المرور عبر دواوينهم إجراء ضروري في عالم المال و الأعمال بالدرجة الأولى. حتى نوع تكوينهم الأكاديمي معروف أيضا. فهم يجيدون الحساب و حافظون لمدونة التجارة و قانون الالتزامات و العقود و يتابعون باستمرار الجديد الذي يطرأ على التفاصيل الضريبية و يشرفون على عقد الصفقات من منظور تقني محض و طبقا لما تنص عليه القوانين ذات الصلة.
فبأي منطق إذن يمكن اعتبار هذه الفئة قوة اقتراحية في موضوع اجتماعي من الخطورة بمكان ؟ كيف يمكن لنا أن نراهن على الموثق العصري للمساهمة في حلحلة الإشكاليات المرتبطة بأمور الزواج و الطلاق و الولاية و التعدد و الحضانة و الطاعة و ثبوت الزوجية و زواج القاصر و غيرها من شؤون الأسرة المتشعبة و الحساسة ؟ و إذا كان الهدف من الاستماع إلى مختلف أطياف و فعاليات المجتمع المغربي هو إدماج زوايا النظر الممكنة في مشروع المراجعة المحال على الهيئة الموقرة، فمن أي زاوية سيدلي الموثقون العصريون بدلوهم ؟ هل بإمكانهم أن يقدموا الإضافة المرجوة ؟ هل لهم القدرة على خلق نقاش عميق في الموضوع أم أن بعضهم سيحاول فقط انتهاز الفرصة للدفع في اتجاه الظفر بمنافع اقتصادية جديدة قد تزيد من تقليص ما تبقى من صلاحيات الموثقين التقليديين ؟
نعم لاستشارة أهل القضاء بنوعيه الجالس و الواقف. نعم لاستشارة المحامين و خاصة ذوو التجربة الطويلة منهم و ذلك لاعتبارات معروفة و لا داعي لبسطها في هذا المقام. نعم لاستشارة ممثلين عن الضابطة القضائية بما أن هذه المؤسسة هي أول من يتعاطى مع تبعات العنف و التشرد و الانحراف الناجمة عن تفكك الأسرة. نعم لاستشارة الأحزاب السياسية و الهيئات الحقوقية و الجمعيات الوازنة و النشيطة المجندة على مختلف الجبهات الاجتماعية. نعم لاستشارة العلماء الربانيين لأنهم أدرى بديننا و مقاصد شريعتنا. نعم لاستشارة الهيئة الوطنية للعدول الذين بفضل تكوينهم الشرعي و درايتهم بالقوانين المنظمة للعلاقات الأسرية شكلوا على الدوام وجهة المغاربة الوحيدة في تحرير عقود النكاح و فك الارتباط بين الأزواج إضافة إلى توثيق الوصايا و المواريث و غيرها من المعاملات و الصفقات الرسمية و كل هذا على أساس مقاربة تجمع بين ما هو ديني و ما هو دنيوي. نعم لاستشارة أساتذة التربية الإسلامية لأننا مسلمون أولا و أخيرا و لأن دورهم محوري في تربية أجيال متشبعة بالقيم الإسلامية… و نعم لاستشارة كل من له الأهلية لإثراء النقاش الدائر و خاصة المعنيون مباشرة بتطبيق مقتضيات المدونة. أما التقنيون من ذوي الاختصاصات العلمية الدنيوية من قبيل الموثقين العصريين و الصيادلة و أرباب المختبرات الطبية و المهندسين الطوبوغرافيين و أطباء الأسنان و الأضراس و الأنياب فلا شأن لهم بصياغة التشريعات الخاصة بالأسرة، و تخصيص وقت للاستماع إليهم لن يحسب إلا ضمن الأوقات الضائعة غير القابلة للاسترداد حتى و إن كان ذلك يندرج ضمن رغبة الهيئة في تحقيق مقاربة تشاركية لا إقصاء و لا تهميش فيها لأي جهة لها وضع اعتباري معترف به و تحظى بقدر من الاحترام في عيون المجتمع.
فشيئا من المنطق من فضلكم يا أعضاء الهيئة ! التعديلات التي أنتم مقبلون على اقتراحها على السدة العالية بالله تهم أخطر قانون بالبلاد لأنه ببساطة يهم نواة المجتمع التي بصلاحها تصلح الأمة و بفسادها لن يكون نصيبنا من الدنيا غير الضنك و التمزق و التشرد و الاكتئاب و الكبت و حتى الجنوح إلى الإجرام. إنها مسؤولية تتطلب قبل كل شيء استحضار التاريخ الذي لا يدرس للناشئة عبثا، كما تتطلب إعمال العقل و لكن في حدود معينة حتى لا يحدث لنا ما حدث للغربيين عندما طلقوا النص الديني بالثلاث و راحوا يطلقون العنان لعقولهم فتسببوا من حيث لا يدرون في تخريب الأسرة و المجتمع من خلال سن قوانين لا عهد للإنسانية بها حتى أصبحت هيبة الرجال في مهب الريح و تضخمت في المقابل سلطة النساء و الأطفال و اختفى مصطلح “لقيط” و تم التطبيع مع مصطلح “أم عازبة” و أضحى زواج المثليين و تبادل القبل بينهم حتى بالفضاء العام أمرين مشروعين بقوة القانون … بل و أصبح بإمكان أي شخص أن يوصي بمجموع ثروته لكلب أو لقط !!!
في أي اتجاه إذن تسير الأمور عندنا ؟ هل في اتجاه ربط الماضي بالحاضر لاستعادة أصالتنا و ما ضاع من قيمنا أم في اتجاه ربط الحاضر بمستقبل مجهول ؟
رجاء لا تساهموا في فصل هذا الوطن و أهله عن مرجعيتنا الموروثة و الزج بنا بالتالي في أحضان مرجعية بديلة مستوردة لن يقبلها جسمنا أبدا و لن تكون إلا هجينة و ضبابية و غريبة و لن نجني من ورائها في الغالب غير المزيد من التيه الهوياتي. مرجعيتنا مازالت صلاحيتها سارية المفعول و لو كان بها عيب لتوقف العمل بها منذ قرون. المغاربة ليسوا أغبياء حتى يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
قد يقول قائل : حتى في ظل الظروف السابقة كان هناك طلاق و عانت النساء الأمرين و تعرض الأطفال للتشرد و من الضحايا من عاش حياته كلها و هو في صراع مع عقده النفسية.
نعم، هذا كلام صحيح، و لكن لم تكن الأرقام بحجم أرقام اليوم. فنسب العنوسة و العزوف عن الزواج و اعتقال الرجال بتهمة الإهمال الأسري لم تصل أبدا إلى ما وصلت إليه في وقتنا الحاضر حتى باتت هذه الظواهر تهدد النسل و تنذر بتحولات ديموغرافية هائلة على المدى المتوسط، كما أن تأخر سن الزواج بسنوات طويلة و لجوء السلطات القضائية إلى إحداث محاكم متخصصة في قضاء الأسرة بعدما ظلت دعاوى الطلاق و النفقة تعد ضمن القضايا العادية على امتداد قرون من الزمن دليلان إضافيان و قاطعان على هول الاختلالات التي طالت الأسرة المغربية و التي و إن كان للمدونة الحالية نصيب الأسد من المسؤولية فيها فإنها نتاج أيضا لمتغيرات أخرى شهدها المجتمع في العقود الأخيرة و وجب الاعتراف بوجودها.
تساؤل أخير : من بين كل فقهاء القانون الوضعي الذين عرفهم تاريخ البشرية هل يوجد مشرع واحد كان بإمكان اجتهاده أن يوصله إلى فكرة وجوب زواج امرأة طلقها زوجها الأول ثلاث مرات من رجل ثان حتى يتمكن الأول من استردادها ؟
لا أعتقد ذلك. هذا الحكم لا وجود له إلا في شريعة الله التي لا تستهدف إلا مصلحتنا. و هذه الجزئية و غيرها من الجزئيات لا يتداول فيها إلا ذوو الاختصاص بالضبط كما أن المواضيع المرتبطة بالمحركات و علب السرعات و الفرامل و العوادم متروكة لأهل الميكانيك. و عليه، و بما أنه من سابع المستحيلات العمل بكل الاقتراحات المعبر عنها، فإن أملي كبير في أن يتمكن أعضاء الهيئة من فرز الجيد من الرديء و الغث من السمين و “المعقول” من “التخربيق” لما فيه خير هذا الجيل و الأجيال المقبلة… مع لفت الانتباه إلى أن البحث عن المصلحة الفضلى للمجتمع يقتضي أيضا من المشرع تيسير الزواج دون تعسير الطلاق.
و لكم واسع النظر.