الندوات عن بعد.. لقاءات باردة
هوية بريس – خالد الصمدي
لم أكن أشعر في اي يوم من الايام بأي تعب، أو مشقة او نصب، وأنا أستقل سيارتي متوجها إلى مدينة أخرى ملبيا دعوة كريمة للمشاركة في لقاء علمي، في رحلة جميلة أتقاسم فيها مصروف الرحلة مع أصدقاء، رحلة ماتعة قد تستغرق عدة ساعات نقطع فيها مسافات ومفازات ننشد فيها شعرا ونشرب شايا ونتبادل النوادر والنكت والفوائد العلمية إلى محطة الوصول.
أو حين أحزم حقيبتي لأتوجه الى المطار في رحلة قد تستغرق ليالي وأياما ، للمشاركة في ندوة علمية دولية يتداعى اليها الناس من كل حدب وصوب، رحلات كنت أشعر فيها بدفء الروح حين كان يسبقني فيها الشوق الى معرفة ثقافته وحضارة البلد المقصود وعاداته وتقاليده وجامعاته ومؤسساته العلمية والثقافية وعاداته في المأكل والمشرب والملبس بل وحتى ألوان لباسه ورائحة توابله في أسواقه التقليدية العتيقة، وهي هوامش جميلة في دائرة الندوات العلمية لمن عاشها، استمرت آثارها في نفسي على المدى البعيد أعتز بها تجربة وخبرة وأفتخر بها رصيدا غنيا في كل وقت وحين، وأحكيها للطلبة والاصحاب، وهم يستمعون إليها بإعجاب.
رحلات سبقني فيها شوق اللقاء بأشخاص جمعتني بهم رحم العلم والمعرفة فكنت أعرفهم قبل اللقاء بهم من خلال مقالاتهم وكتبهم كما أعرف أبناءهم، وحين حدث اللقاء المباشر تعاوننا فأنجبنا من هذه الرحم بنين وحفدة من المقالات العلمية والكتب المشتركة.
حتى إذا حل بنا “كوفيد ” مفرق الابدان ومغلق الاوطان، أصبح كل ذلك إلا ما نذر في خبر كان، فانتشر تقليد الندوات الباردة عن بعد، لقاءات تلزمك مكانك بيتك أو مكتبك، تبدأ بالضغط على زر كاميرا، وقد تنتهي فجأة بانتهاء شحنة الهاتف، عنوانها واحد برودة العواطف.
ولئن كنا قد لجأنا إلى هذا الحل اضطرارا كإجراء مؤقت قبل الرجوع الى ما سلف، فإننا وجدنا أنفسنا بعد إيلاف به أنه قد ترسخت فينا ثقافة الانعزال والبعد والعجز والكسل، بعد أن وفرت لنا هذه التقنيات سبل الاتصال وقطعت بيننا التواصل.
وهكذا افتقدنا تدريجيا ما كان يحيط في العادة باللقاءات المباشرة من حرارة المكان ودفء الابدان وسلام بالأحضان، و تبادل لآخر الكتب والاصدارات الموقعة، والتشاور على هامش الندوات بين الباحثين في قضايا علمية ومهنية مشتركة وموسعة، والتعرف على قامات علمية جديدة، ودرر من الخبرات والتجارب الفريدة، بل تبادل وجهات نظر في قضايا سياسية وثقافية ودينية ووطنية ودولية تهم قضايا الأمة على هامش الجلسات العلمية، وفوق هذا وذاك أجر المحبة والمودة وأجر كل خطوة من خطى التواصل للقاء بأهل الفضل والخير.
وهكذا أصبح الواحد منا يحسب للتنقل لحضور ندوة علمية في المدينة المجاورة ألف حساب مالا ووقتا وجهدا، وأضحينا نفضل أن نشارك بعضنا فضاء رقميا مفتوحا نكتفي فيه بابتسامات باردة وراء الكاميرا، وغير قليل من التصنع، وقد يلبس الواحد منا وهو يحضر. لقاء علميا نصف بذلة أنيقة من فوق مع سروال نوم وشبشب تحت المكتب، بحيث يكفي من الجد ما ظهر على النت، وقد يحيط به المشاغبون من الابناء فيضطر إلى زجرهم بحركات خفية بلهاء فإذا بها تبث مباشرة على الهواء، فضاع التركيز.
وبثقافة التواصل ” عن بعد ” ضاع كل عزيز.
وكلنا عليك الله ياكوفيد.
فقد مزقتنا حين صدقناك فأوهمتنا أن التواصل يمكن أن يتعزز من بعيد!!
عودوا إلى دفئكم وسابق عهدكم يرحمكم الله.