صورةٌ مؤسفة لا أستطيع تجاوزها بسهولة..
هوية بريس – تسنيم راجح
شاهدت صورة لفتاة عرفتها قديماً، لم أرها منذ أكثر من خمس عشرة سنة، لكنها كانت تحضر الدروس آخر عهدي بها وترتدي الحجاب الشرعي وسمتها الحياء والالتزام كما كان يبدو..
لقد سافرت لإحدى دول الغرب وتخرجت فيها مع بعض الشهادات والاختصارات التي باتت تتبع اسمها، وبدأت تكتب وتتكلم بلغة البلد التي وصلتها، حجابها تحول للفة ضيقة على الشعر تكشف أقراط الأذنين وتظهر الرقبة، ومعه تتكشف أكمام الثوب حتى نصف الذراعين وأكثر، مع شيءٍ من الزينة والحليّ طبعاً..
صورةٌ مؤسفة لا أستطيع تجاوزها بسهولة..
أتأمل في حالٍ متكررٍ في المسلم المهاجر لبلاد الكفر ونحو فتنتها و رمالها المتحرّكة الخبيثة، ذاك المستسلم لها بعد خروجه من فقر أو حرب أو ظلم بلاده أو فسادها أو مجرد صعوبات المعيشة فيها، الممتلئ (في كثير من الأوقات) انهزاماً وضعفاً وجهلاً بنفسه وهويته وما عنده، الذي يعميه الضياء الكاذب عند وصوله فيحاول بكل جهده أن يصير جزءاً من حمَلته ويندمج معهم ويثبت لهم أنه لا يختلف عنهم، يرجوهم ولو دون قول أن يقبلوه بينهم ويعتبروه واحداً منهم، فهو ضائع ويظنهم ويظن ما عندهم هو جوابه، فاقدٌ لشيءٍ لا يستطيع وصفه ويظنّ نفسه وجده، وهناك يريد منهم أي كلمةٍ أو تعبيرٍ عن القبول يشعره بأنه نجح قليلاً بالانتساب لهم..
ماذا يبقى من دين من هذه حاله؟ ماذا يبقى منه كعبدٍ لله؟ هل سيكون عبداً لله حقاً هناك؟ أم سيتحوّل عبداً للشركة والقوانين والمجتمع الجديد ومعاييره ونظراته بكلّ بساطة؟ ماذا سيبقى من لغته؟ كيف سيختار زوجته وكيف سيربي أولاده؟ ماذا عن الجيل التالي والتالي له؟
هي فتنة بلا شك، وهي صعبةٌ فعلاً، ولذلك نحذر منها وكان العلماء ومازالوا يخوّفون منها، لأنك تتحدّث عن دنيا وعن ضعف وعن قوة وعن حاجة للتغيير والصبر عليه في بلاد المسلمين، وعن نفوسٍ تضعف وتريد الراحة المباشرة والحلول السريعة ويمكنها تبرير الكسل وتمرير السنوات في الغفلة، حتى تصير حزءاً مما لم تقبله من قبل، وحتى يذوب ما كان يبدو ثابتاً فيها تماماً..
صحيح أن هناك من ثبتوا في بلاد الغرب وهناك من انتكسوا في بلادنا، وصحيح أننا لا نقول بأن الهجرة هي السبب الوحيد لانتكاسة من انتكس في بلاد الغرب، لكن الأرقام واضحة في الأبحاث المتكررة عن المحافظة على الأديان والتمسك بالهويّات بعد الهجرة للبلاد الغربية، الأرقام واضحة عن الحديث باللغة الأم وعن التزام دين الأسرة (ويمكنكم البحث سريعاً في أي قاعدة بيانات للأوراق البحثية)، والفرق كبير بين أن ينتكس المرء في بلاده فيعيب عليه مجتمعه ذلك وبين أن يفعل الأمر ذاته في غربته فيلاقي قبولاً أو حتى ترحيباً وتشجيعاً (وقد يلاقي التقبل في بلادنا مع الأسف لكن يظل أقل بكثير)، وما ينبغي للمؤمن أن يفتن نفسه ولا يعرضها لما لا تطيقه أو قد لا تطيقه من البلاء، ولا ينبغي له أبداً أن يضحي بآخرته ليجمع من دنياه أو يرتاح فيها (ولا أتحدث عمن اضطر للسفر هنا)..
وإن كان الحديث عن السفر لبلاد الكفار يطول ولا يمكن إيجازه هنا، إلا أنني أختم بالتذكير والتحذير..
لا تأت لبلاد الكفر إلا مضطراً أو لهدف واضح محدد وبكثير من مخزون المناعة العقدية والفكرية والنفسية، ولا تقعد فيها إلا مدة حاجتك أو اضطرارك، وبعدها عد لأي من بلاد المسلمين مهما كان فيها من صعوبات واختلافات، هاجر بنفسك وأسرتك إلى الله ورسوله، وطنك هو بلاد الإسلام، جذورك ينبغي أن تغرس فيها وذريتك ينبغي أن تنتمي لها، فأرض الله واسعة وهو الرزاق سبحانه، وأنت مسلم لا تعيش لهذه الدنيا فقط ولا تضحي بآخرتك في سبيلها..