هل ولى فعلا زمن القراءة؟
هوية بريس – محمد كرم
لا أعتقد بأن مقالي هذا في حاجة إلى توطئة مادام الموضوع معروفا و مادام السؤال واضحا. و حتى لا يتهمني البعض بتمطيط زمن التشويق ـ كما هي عادة العديد من صناع المحتوى الذين لا يمدون المتلقي بجواب عن سؤال استهلالي إلا بعد مرور نصف سـاعة على بداية المتابعة ـ سأدخل في الموضوع مباشرة، و هذا هو جوابي على السؤال/العنوان :
إذا كان المقصود بالسؤال فعل القراءة في حد ذاته فالجواب لا يمكن أن يكون إلا بالنفي. و سأذهب إلى أبعد من هذا لأقر بأنه لم يسبق للقراءة على مر التاريخ أن عرفت درجة الانتعاشة التي تعرفها اليوم. من منا لا يخصص في حياته اليومية وقتا للاطلاع على جزء مما هو مكتوب على مختلف الحوامل مهما كان مستوى تمدرسه ؟
و هكذا، يكفي أن نفتح نوافذنا في الصباح لاستقبال نور الشمس و تعزيز كمية الهواء ببيوتنا لنجد أنفسنا ماسحين بأعيننا تلقائيا جزءا على الأقل مما تم خطه على جدران الجهة المقابلة و على اللوحات و اللافتات القريبة على اختلاف غاياتها حتى و إن كانت القراءة في ذلك الوقت بالذات آخر همومنا (حلاق الزهور، ممنوع رمي الأزبال، مكاتب للكراء، عاش الوداد، محلبة مزودة بكاميرات المراقبة، مقهى الريمونطادا، زيت المائدة رقم 1 من أجل توازن دائم، ممنوع البول ….)، و عندما نجرد هواتفنا المحمولة من جيوبنا أو حقائبنا نقرأ لمعرفة مضمون ما يرد علينا و ما نرغب في معرفته من أخبار المشاهير و الطرائف و مستجدات السياسة و الفن و الاقتصاد و الرياضة و غيرها من المواضيع، و عندما نشغل التلفزيون نقرأ كل ما يظهر على الشاشة بما في ذلك أرقام البورصة و جينيريك الأفلام و المسلسلات، و عندما نحصل على تذكرة أو وصل أداء أو وثيقة إدارية نقرأ لتطمئن قلوبنا، و عندما تصلنا فواتير الماء و الكهرباء و الهاتف نقرأ طبعا لمعرفة درجة قوة الصدمة المالية الجديدة، و عندما نقوم بعمل إداري أو ذهني أو هندسي نقرأ أيضا للوفاء بالتزاماتنا المهنية بالشكل المطلوب، و عندما نلج مطارا أو محطة قطار أو محطة طرقية أو محطة حافلات حضرية نقرأ حتى لا نخطئ الوجهة، و عندما نرغب في تذوق أكلة جديدة نقرأ حتى لا تخوننا المقادير و لا تستعصي علينا طريقة التحضير، و عندما نتأهب لاستغلال جهاز جديد أو تجريب منتوج صناعي جديد أو استهلاك دواء جديد فإننا نقرأ حتى لا نسيء الاستعمال… حتى التسلية تمر عبر القراءة في أحيان كثيرة.
بعبارة أخرى، إننا نقضي يومنا بأكمله في ممارسة القراءة سواء عن طيب خاطر لإشباع فضول معين أو من باب الضرورة في زمن أصبح فيه الأمي أكثر وعيا بمأساته الحضارية الشخصية ما دام أن مجرد اكتشاف و لو جزء يسير من إمكانيات الهاتف المحمول العادي (البليد) أو الانتقال من قناة تلفزيونية إلى أخرى يستوجب اليوم التوفر على القدرة على فك طلاسم الحروف و تبيان معاني الكلمات و لو في الحدود الدنيا. لقد أضحت القراءة في أيامنا هاته فعلا ملازما لكل تحركاتنا، و كل شيء يؤكد أولويتها مقارنة بباقي المهارات اللغوية حتى أصبح الكثير من المرضى لا يترددون في الاطلاع على ما كتب بخصوص مرضهم قبل شد الرحال إلى عيادة الطبيب، و أصبح العديد من المتقاضين لا يباشرون المتابعات القضائية إلا بعد “غوغلة” نازلتهم لمعرفة نسبة حظوظ كسبهم للدعوى المراد رفعها، و أصبح السياح في غنى عن المرشدين، و أصبح كل من يرغب في اقتناء عقار أو سيارة في غنى عن الوسطاء.
أما إذا كان المقصود بالسؤال هو القراءة الرصينة و العميقة للكتب و المجلدات و الإنتاجات الأدبية و زبدة الأعمال الفكرية و الدراسات المتخصصة و غيرها من المواد المكتوبة التي تتطلب النفس الطويل و الميول اللازم و الخبرة الطويلة في التهام المطبوعات فوجب الاعتراف بأن هذا الصنف من النشاط الذهني في تراجع مستمر، و لولا الإكراهات المدرسية و الجامعية و البحثية لاختفت الكتب تماما عن المشهدين الثقافي و العلمي (مع الإشارة إلى أنه حتى في السياق التعليمي غالبا ما يتعامل الجيل الجديد من التلاميذ و الطلبة مع المصنفات المقررة بالكثير من المكر و الاحتيال مكتفين في الغالب بملخصاتها عند توفرها على النت مدفوعين إلى ذلك بقاعدة معاصرة عامة مفادها أن الأغاني التي تزيد مدتها عن ثلاث دقائق و النصوص التي يزيد عدد كلماتها عن 500 كلمة تستحق التجاهل بلا تردد و بلا رحمة !!!!!) و على أية حال، وجب الاعتراف أيضا بأن معظم ما قرأه المتعلمون عبر التاريخ كان عبارة عن نصوص دينية و شعرية و قصص و روايات لتزجية الوقت في المقام الأول، أما القراءة الجادة التي تتخذ من مختلف العلوم موضوعا لها فكانت حكرا على طبقة جد محدودة من الناس في كل الأزمنة و في كل الأمكنة. فحتى في زمن شيشرون و الجاحظ و فولتير لم يكن هواة القراءة أو محترفوها الحقيقيون يشكلون سوى شموعا قليلة جدا وسط ظلام الأمية الدامس.
ماذا حدث إذن حتى أصبح هذا الصنف من القراءة يعيش أحلك أيامه حتى في صفوف حملة الشهادات العليا ؟ ماذا طرأ على الساحة الثقافية حتى أصبح مشهد قارئ يقلب أوراق رواية أو كتاب بفضاء عمومي يثير الدهشة إن لم نقل السخرية ؟ ماذا جرى حتى أصبحت المكتبات الجامعية نفسها خاوية على عروشها تقريبا ؟ أين اختفى معظم مدمني القراءة التقليدية بوسائل النقل العمومي و بقاعات الانتظار و بالحدائق و على الشواطئ حتى بالدول الغربية ؟
إن ما هو حاصل يجد تفسيره في سنة التطور التي لا يمكن لأية قوة فوق الأرض أن تقف في وجهها و تحد من مفعولها. لقد ولى زمن الريشة و زمن اليراع و المداد و الصلصال و حتى الطباشير و ها نحن اليوم نعيش زمن الشاشة و الملمس و الفأرة و القرص المدمج و مفتاح التخزين و تقنية التخزين السحابي والسبورة التفاعلية ، و انقضى عهد القراءة على الصخر و جدران الكهوف و الجلد و أكتاف الإبل و الألواح الطينية و الخشبية و جريد النخل و ورق البردي و ها نحن اليوم بصدد توديع القراءة التقليدية و نبذ الكتاب الورقي الذي أضحى أبخس السلع على الإطلاق بمعنى من المعاني ما جعل من ممارسة تجارة الكتب أسرع الطرق إلى الإفلاس، و لولا دعم الجهات الرسمية لدور النشر و تطوع المؤلفين أنفسهم لتحمل جزء من تكاليف الطبع و التوزيع لإنقاذ ما يمكن إنقاذه لكان الوضع أكثر سوءا… و لو قدر لك أن تنسى كتابا بمكان عام و عدت إليه و لو بعد عشرة أيام ستكتشف بأن يد البشر لم تصل إليه !!
الكتاب بمعناه الشائع ليس بخير بكل تأديد، و ناشروه ليسوا أفضل حالا، و لكن القراءة بألف خير و إن أصبحت فوضوية و مجزأة و لم تعد تخضع لبوصلة مضبوطة، بل هناك اليوم إدمان متزايد على هذا الفعل من قبل قاصرين و بالغين لم يعد بإمكانهم الابتعاد عن هواتفهم المحمولة و حواسيبهم لأكثر من نصف ساعة كاملة، و هناك أيضا تناسل عجيب للمواقع و المدونات الإلكترونية التي تعيش أزهى أيامها… و لا غرابة في ذلك. فقد حثنا الله سبحانه و تعالى على القراءة، و ما كان ليفعل ذلك لو لم يكن يعلم بأن أسبابها ستظل دائما قائمة و بأن حواملها فقط هي التي ستتخذ أشكالا متنوعة على مر العصور. نحن اليوم في طور تجريب القراءة الإلكترونية بما لها و ما عليها و ليس هناك على الإطلاق ما ينبئ باحتمال وأد التقنية الجديدة و إعادة الاعتبار للحوامل السابقة. هذا هو واقعنا الجديد و ما علينا سوى تأهيل أنفسنا و أولادنا للانخراط فيه و الاستئناس به مع محاولة تجاوز العيوب التي أبانت عنها الممارسة الجديدة و أخص بالذكر التشتت المعرفي و التعاطي المتفاقم مع المواضيع التافهة و النصوص المحررة بالعامية.
فالمطالعة تفقد الكثير من نجاعتها إن لم تخضع للتنظيم و التوحيد على مدى فترة معينة. هذان شرطان أساسيان لابد من توفرهما حتى يكون الاستيعاب كاملا و تكون الفائدة مضمونة، و هذا ما خبرناه مع القراءة التقليدية. من الضروري إذن التركيز في كل مرة على موضوع جاد واحد و نص محكم واحد و لغة عالمة واحدة، أما إطالة التجوال عبر المواقع على اختلاف تخصصاتها و لغاتها مع الاكتفاء بقطف أزهار معدودة من عشرات البساتين في فترة قصيرة فلن يجلب على القارئ سوى التيه الذهني الناتج عن حشو الدماغ بتفاصيل و معطيات و أرقام و تأملات و خواطر و مقولات و معلومات من الصعب جدا تثبيتها بالحيز المخصص لها بالذاكرة و ذلك بحكم طبيعة ظروف تحصيلها. إن المرء عندما يلج أي سوق فإنه لا يتفرج على كل المعروضات و لا يقتني كل السلع و إنما يركز انتباهه على ما هو في حاجة إليه و ما هو في متناول ميزانيته و ما يستجيب لذوقه و انتظاراته فقط.
هذا ما يجب أن ننادي به و نشجع عليه و ليس حث الناس على العودة إلى أسفار و مجلدات لم يعد يقربها اليوم إلا المتخصصون من نخبة النخبة. القراءة الإلكترونية هي الحاضر و هي المستقبل المنظور ( من يدري ؟ فقد تبرز أشكال بديلة أخرى من القراءة على المدى البعيد الله وحده أعلم بخصوصياتها ) و هي في حاجة فقط إلى تأطير على المستويين الأسري و المؤسساتي حتى يتسنى لنا جميعا تقويم ما اعوج من العادات الجديدة و بالتالي قطف الثمار بالشكل الأمثل. فحتى أطفال هذا الزمان الصغار جدا قادرون على تقليب صفحات الألواح الإلكترونية و الهواتف المحمولة بأناملهم الصغيرة، و منهم من يختار صوره و ألعابه و أغانيه المفضلة بمقدرة عالية و كأن الأمر يتعلق بغريزة إضافية أصبحت تولد مع الإنسان. فكيف سننجح إذن في زمننا هذا في إقناع الناشئة بأن شراء كتاب أو استعارته مع تخصيص أسبوع في المعدل لقراءته عملية بسيطة و سهلة و ممتعة و في متناول الجميع ؟ … مع احترامي طبعا لكل الجهات المجندة لإعادة نفخ الروح في الكتاب الورقي و انتشاله من طي النسيان و التي تعتقد بأن هذا المسعى قابل للتحقيق في زمن الثورة الرقمية الجارفة و اقتصاد المعرفة المتشعب و الذكاء الاصطناعي الرهيب.
لا خوف إذن على عادة القراءة مادام أن اكتساب العلم يكاد يكون مستحيلا بدونها و مادام هناك وعي جماعي بأهميتها و لا أدل على ذلك من أن مصطلح “القراية” العامي يستعمل في مجموعة من اللهجات العربية للإشارة إلى العملية التعليمية برمتها، و ما تلوكه الألسن بخصوص “الأزمة” هو مجرد تهويل نابع أساسا من ربط القراءة بالحامل الورقي دون غيره… و لو انتهى زمن القراءة فعلا لما ازداد عدد قراء الحوامل الإلكترونية بغض النظر عن درجة جديتهم و لما ارتفع عدد الكتاب الذين ينشرون على هذه الحوامل بغض النظر عن قيمة ما يكتبون علما بأن الكثير من هؤلاء قاوموا الموجة الرقمية في البداية لكنهم اضطروا إلى ركوبها في نهاية المطاف ليس فقط بهدف مسايرة العصر و لكن حتى لا يظلوا بدون قراء أيضا.