كيف نفسر محرقة “النازية الجديدة” في رفح؟

01 يونيو 2024 11:30

هوية بريس- محمد زاوي

المحرقة التي أشعلها الكيان الصهيوني في مخيمات رفح، بتاريخ 26 ماي 2024، ليست بجديدة على نازيته المعهودة والقديمة. فهي جزء من تكوينه ومنطق تطوره في مجال جيوسياسي يأباه ويرفضه. الجديد هو أنه نفذها في ظل الإدانات الدولية، ومن مؤسسات دولية كانت إلى عهد قريب تمارس “لعبة الصمت” خاضعة لميزان قوى دولي يخدم الكيان وداعميه والمستفيدين من وجوده أكثر مما يخدم الحق الفلسطيني.

ل”محرقة الخيام” عدة تفاسير تعود في أصلها لتفسير واحد؛ ولكن فلنعرضها جميعا حتى تتضح الصورة، وتظهر حقيقة الكيان الصهيوني جلية لمن يحتاج إلى مزيد إيضاح:

-التفسير الفلسفي: الكيان الصهيوني قائم على وجهة نظر فلسفية مادية بالمعنى المبتذل لهذه الأخيرة (للمادية)، أي بما هي تجلّ “للإنسان العلماني الشامل” بتعبير عبد الوهاب المسيري في “الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان”. الكيان الصهيوني نفسه حدث “علماني شامل” مرجعيته “عرقية كامنة”، وفي فترة من فترات التاريخ يتحول إلى أقصى درجات هذه العلمانية وأبشعها وأفظعها، وهو ما أسماه طه عبد الرحمان “الشر المطلق”. صحيح أن هذا التجلي له ما يفسره في الواقع السياسي والاجتماعي الموضوعي، إلا أنه واقع لا ينعكس إلا في قابليات فلسفية وإيديولوجية وأخلاقية ونفسانية.

-التفسير السياسي: العالم في مفترق طرق، وفي سياق مفصلي، تتضارب فيه المصالح والمخططات الاستراتيجية والمواقع الجيوسياسية بشكل غير مسبوق. في فترات تاريخية من هذا النوع، يتوسل الطرف الأضعف في الأفق المستقبلي للصراع، وهو الطرف الذي من الأرجح أن يفقد العديد من مواقعه ومصالحه ومجالات نفوذه؛ قلتُ: يتوسل هذا الطرف بأفظع الوسائل وأعنفها في محاولة منه للبقاء أو تمديد زمن الصراع إلى حين ظهور متغيرات جديدة قد تكون في صالحه. تحت هذه المعادلة السياسية معادلات أخرى أصغر، من أبرزها: علاقة الكيان بدول الطوق، علاقة الكيان بالسعودية، الدور المستقبلي للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط، تدخل الفاعل الجديد (الصين وروسيا) في المنطقة، علاقة الكيان بإيران، إلى غير ذلك من المعادلات التي تستحضَر في ذهن “صاحب القرار الإسرائيلي” ومن يقف خلفه.

-التفسير العقدي: هناك مستجدات جيوسياسية لا تخدم طرفين رجعيين في كل من الولايات المتحدة الأمريكية و”إسرائيل”؛ وإذا كان الطرف الرجعي في أمريكا قادرا على التراجع والتأقلم مع الوضع الجديد بحكم منطقه المصلحي كرأسمال مالي، فإن الطرف الرجعي داخل “إسرائيل” (اليمين المتطرف/ الأشكيناز ومن نحا نحوهم) لا يقبل الوضع الجديد، ويتمركز حول عقيدته التلمودية كلما اشتدت المعارك واستفحلت الحرب. هذا الطرف أصبح اليوم قادرا على التأثير لا في الداخل “الإسرائيلي” فحسب (كما حصل مع بنيامين نتنياهو وهو من تيار الوسط)، بل في أمريكا أيضا، ما يضطر هذه الأخيرة إلى الضغط عليه بعدة أساليب، قد تكون احتجاجات الجامعات الأمريكية من بينها، ناهيك عن القرارات والاعترافات الدولية الأخيرة.

-التفسير الاقتصادي: صحيح أن الرأسمال الأمريكي يعيش أزمة بنيوية ناتجة عن تناقضاته الداخلية، بالإضافة إلى أزمات أخرى ناتجة عن تناقضه مع القوى الصاعدة الجديدة (اشتراكية السوق الصينية، والرأسماليات الوطنية الصاعدة)؛ إلا أن هذا الرأسمال يأبى الاستسلام، خاصة الرجعي منه الذي يسعى إلى حفظ مصالحه في الشرق الأوسط، وضمان موقع تنافسي يبقيه حيا بين “الكبار الجدد”. فغزة بالنسبة للأمريكيين، ليست إقليما فلسطينيا فحسب، وليست مجالا للحرب بين “إسرائيل” والمقاومة الفلسطينية فقط؛ وإنما هي مجال جيوسياسي استراتيجي ومورد اقتصادي مهم إذا ما تحدثنا عن حقل غاز غزة، وما يُنشَأ لتأمينه والسيطرة عليه من مشاريع (ممر “نتساريم”، الرصيف العائم، قاعدة عسكرية عائمة) لا تتحقق إلا بالسيطرة على كل غزة أو على شمالها على الأقل.

-التفسير الحضاري: المعركة ضارية حضاريا بين نموذجين ثقافيين، وبين فكرين، وبين فلسفتين؛ بين طرف يسعى إلى الربح على حساب تقدم الإنسان وما راكمه من حضارة، وطرف آخر يقاوم هذا النزوع الهيمني والسيطري (السيطرة أسوأ وأخطر من الهيمنة). المقاومة الفلسطينية في غزة لا تمثل قضيتها الوطنية فحسب، وهو أمر مشروع؛ بل إنها تتعدى ذلك لتمثل المقاومة العالمية ككل. إن “حماس” ومثيلاتها تنوب عن هذه المقاومة العالمية في ساحة غزة، كما تنوب روسيا عنها في أوكرانيا، والصين في تايوان، وأرمينيا في كرباخ، وفنزويلا في أمريكا اللاتينية؛ إلى غير ذلك من المعارك التي تُخاض اليوم في مجالات جيوسياسية خاصة، إلا أنها تعود إلى نفس الأصل الحضاري، معركة مصيرية بين من يريد أن يُبقي ويَبقى ومن يريد أن يُفني ويَفنى.

التفسير الاقتصادي السياسي هو تفسير التفاسير إذا تحدثنا عن المعركة في بعدها الموضوعي والتفصيلي الملموس، وإذا تحدثنا عنها في أبعادها الإنسانية الكبرى فإننا سنكون أمام تحدّ حضاري كبير لاستراتيجية الإسلام فيه عدة أجوبة، لعل من أبرزها صمود المقاومة الفلسطينية في غزة. هذا الصمود بحساب السياسة قد يفنى إذا استنفد أغراضه الواقعية وإذا أوقفته حدوده في غمار الاقتصاد والسياسة والحرب، إلا أنه في ميزان الحضارة فعل بطولي كبير سيخلّده التاريخ للأجيال وحركات التحرر!

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M