الأسرة والقيم في النموذج التنموي الجديد (ج1)

06 يوليو 2024 20:02
جبهتي لشكر رهانين متعارضين وطموح واحد

هوية بريس – امحمد الهلالي

سبق أن نشرنا مضامين مداخلة حول الأسرة والقيم في النموذج التنموي ساهمت بها في ندوة بدعوة من فرع حركة التوحيد والاصلاح بالقنيطرة، وذلك قبل انطلاق دينامية مراجعة المدونة، ولان ما جاء في هذا التقرير بمثل الخلفية الاساسية التي تؤسس للمطالب التي تسعى الدولة لادماجها في القانون الوطني تلبية للتوصيات الدولية. ساعيد نشر هذه الحلقات ونحن منتظر مخرحات لجنة تعديل المدونة بعد ان احيلت كليا او جزىيا على المجلس العلمي الاعلى لاصدار الفتوى الرسمية في القضايا الدينية من هذا المشروع.

تقديم

نقصد بالنموذج التنموي تلكم الوثيقة الصادر عن اللجنة التي كونها الملك برئاسة السيد بنموسى في شكل تقرير يتضمن تصور لمغرب 2035.

وهو تقرير يتكون من ثلاثة اقسام خصص الاولى لتشخيص واقع مغرب اليوم، من خلال ثلاثة محاور همت المشاورات والوضعية الراهنة والمرتكزات وعناصر الاستشراف في افق 2035 ثم التغيير ضروري وذي طابع استعجالي.

أما القسم الثاني فقد تناول النموذج التنموي لمغرب الغد، في ثلاثة محاور ايضا بدأها بطموحات من اجل المغرب في افق 2035 وثناها بمرجعية ثانية من اجل التنمية وختمها بالمحاور الاستراتيجية للتحول.

كما خصص القسم الثالث من هذه الوثيقة لرافعات التغيير تناول في محوره الاول الاوراش التحويلية لاطلاق النموذج التنموي واقترح في محور ثان ميثاقا وطنيا من اجل التنمية.

والسؤال الذي يهمنا في هذه الورقة هو اي موقع للاسرة في هذا النموذج التنموي، ومنه يمكن اثارة اسئلة فرعية اخرى من قبيل ما حجم حضور الاسرة في بنية وقضايا واشكالات هذا التقرير سواء تشخيصا أو استشرافا او على مستوى الطموحات ومرجعيات التنمية ورافعات التغيير المقترحة.

عند تصفح التقرير لا نجد حضورا مباشرا للاسرة سواء كقضية او كمحور، لكن تتبع بعض الاشارات والمؤشرات تعطينا فكرة عن خلفية هذا التغييب من التقرير بوصفها قضية واحضارها كإشكال لدى واضعي التقرير.

ينطلق النموذج التنموي من خلفية فكرية وثقافية تكشف عن الاساس القيمي الذي يؤسس عليها منظوره للاسرة ولباقي مكونات المشروع المجتمعي المغربي في علاقتها بالمرجعية الدستورية وبالقيم الجامعة.

وهذا النموذج الاسري والقيمي لا يحضر في التقرير الا على نحو ضمني ومستتر يتم استقراؤه من خلال العدة المفاهيم المستخدمة في التقرير وبعض التعبيرات المستعملة فيه، وكذا من خلال طبيعة المقاربة المعتمدة في تناول بعض الاسئلة والاشكالات.

وهذه الخلفية القيمية المضمرة هي التي تكشف عن منظور الاسرة والقيم لدى معدي النموذج التنموي.

ويدون استباق للاحداث يمكن القول ان الخلفية هي النموذج المعياري الذي تسعى المواثيق الغربية الى فرضه كنموذج احادي واحدي يتمركز على القيم الفردانية في مواجهة القيم الزوجية وعلى النفعية واللذة والندية ضدا على الاعتبارات الفطرية والقيمية والتكاملية.

لذلك سوف نتطرق في هاته الورقة للاسرة والقيم في النموذج التنموي الجديد لمغرب 2035،(محور اول) ثم للاسرة والقيم في المشروع المجتمعي كما هو وارد في المرجعية الدستورية والقانونية بالمغرب (المحور الثاني)على ان نختم بمحور حول الاسرة في المنظور التوحيدي الاصلاحي (المحور الثالث ).

المحور الاول: الاسرة والقيم في النموذج التنموي

في هذا المحور سوف نتطرق للاسرة والقيم من خلال نقطتين وذلك كما يلي:

اولا: المشاورات والوضعية الراهنة التشخيص:

فقد أورد التقرير في هذه النقطة اشارتين يتيمتين نعرضهما على النحو التالي:

1- تحت عنوان دينامية اصلاحية ساهمت في اذكاء عملية التنمية في المملكة خلال عقد 2000، وفي الاطار رقم 3 من الصفحة 23 من الوثيقة تمت الاشارة الى ” انه على المستوى الاجتماعي تم تنفيذ اصلاحات جريئة اهمها مدونة الاسرة واصلاح قانون الجنسية المغربية ثم النموذج المغربي في اصلاح الحقل الديني والاعتراف بالتنوع الثقافي ومأسسته، اي تكريس الثقافة واللغة الامازيغيتين”.

2- في المحور الاول المعنون بالمشاورات والوضعية الراهنة والتشخيص، في النقطة 5 وتحت عنوان التمثلات الجماعية في المجال الاجتماعي تم الحديث عن تأثير التمثلات في هذا المجال ومساهمتها في تفشي سيادة المعايير التي تحد من ازدهار الافراد والحيلولة دون استقلاليتهم وتقديم المرأة التي ينظر اليها من خلال دورها كام وزوجة، ولا يعترف لها بشكل كامل بقدرتها وبحقها في انجاز طموحاتها والمشاركة في خلق الثروة كما ينظر الى الشباب ايضا كعنصر اكراه او مصدرا للمخاطر يستوجب مراقبتهم، وهو ما يتعارض مع التطلع الواسع الى الحريات وبالطلب القوي للتمكين الذاتي وللاعتراف، مما يتطلب، يضيف التقرير، النفس الطويل وتغيير الذهنيات ويمر عبر اصلاح شامل للتعليم والعمل الثقافي والنقاش التحسيسي، وكذا من خلال إبراز نماذج ناجحة بشكل ممنهج اثناء اعداد وتنفيذ السياسات العمومية للوقوف على عوامل الاحتقان، وادخال الابتكار في طرق العمل وفي النهاية توسيع مجال التمكين. والمقصود طبعا هو التمكين للنساء من منظور المفهوم الواسع للحريات البعيد عن دور الام والزوجة.

وفي خلاصة هذا المحور الاول المتعلق بالتشخيص، يمكن ان نستشف الخلفية التي يستبطنها معدو التقرير عن مفهوم وبنية الاسرة وعن مكوناتها اي ايراد مدونة الاسرة ضمن الاصلاحات الجريئة لبداية الالفية ثم التركيز عن التمثلات السلبية حول المرأة بوصفها عوائق أمام التمكين للمراة والمتمثلة في الذهنيات السائدة عن ادوار المراة التي يتم اختزالها في الامومة والزوجية وعدم الاعتراف لها بحقها الكامل وبقدرتها على انجاز طموحاتها في المشاركة في انتاج الثروة، مما يحد من جهود تمكينها.

وما يريد ان يقوله معدو التقرير في هذا التشخيص، هو ان الاصلاحات الجريئة التي اقرتها الدولة في بداية الالفية لم تستطع ان تحقق الغرض منها وهو التمكين للنساء والاعتراف لها بادوار خارج الامومة والزوجية، وان العقليات والذهنيات القائمة والمعايير السائدة ما زلت تمثل عقبات رئيسة في وجه هذا التمكين وفي الحد قدرت المرأة على انجاز طموحاتها في المشاركة وانتاج الثروة.

هذا التشخيص دفع معدي التقرير الى المطالبة بتغيير المقاربة وبالبحث عن وجهة اخرى لعلاج هذا الخلل البنيوي المنتج لهذه الذهنيات والعقليات، اي عدم الاقتصار على اصلاح القوانين، بل لاةبد من العمل على الاصلاح الثقافي والاصلاح الديني بلا لف ولا دوران وهو ما حاول ان يتطرق اليه التقرير في مرحلة لاحقة بالدعوة المباشرة الى اجتهاد معاصر يتماشى مع السياق ومع تطورات العصر.

ثانيا: الاسرة والقيم في المرتكزات وعناصر الاستشراف في افق 2035:

1- في النقطة رقم 2 المتعلقة بالتحولات الوطنية والدولية أكد تقرير النموذج التنموي على انه يتوقع على المستوى الديموغرافي نموا للساكنة النشيطة وتزايدا مطردا للشباب الباحثين عن العمل، اضافة الى تنامي الشيخوخة، مما سيشكل ضغطا على سوق الشغل في الاولى، واثقالا على انظمة الرعاية الصحية والاجتماعية في الثانية.

ومن الناحية الاجتماعية، يضيف التقرير، فان الانفتاح على العالم بفضل وسائل الاعلام وشبكات التواصل الاجتماعي سيحمل امالا وتطلعات حول حرية التعبير وان قلة النشاط البدني واعتماد انماط استهلاك لا تراعي التوازن الغذائي والايكولوجي ستضاعف من التحديات الصحية وستنعكس على مستوى الرفاه.

يتضح من هذا الاستعراض ان تحديات الاسرة ستتضاعف مع التحولات الوطنية والدولية، ولها انعكاسات وخيمة على المستوى الاجتماعي والصحي وعلى مستوى العيش ستضاعف من الكلفة التي تتحملها انظمة الرعاية الصحية والحماية الاجتماعية .
2-وفي النقطة رقم 3 تحت عنوان الاطار المرجعي اورد التقرير ان النموذج التنموي الجديد يستند على الدستور كاطار مرجعي وعلى مفهوم جديد للتنمية يعكس تطلعات المغاربة.

وفي هذه النقطة بالضبط يسجل بداية الانحراف المرجعي وذلك بمزاحمة المرجعية الدستورية بمرجعية موازية قدمت على انها من خارجه بل ومتوازية معه، وهي ما سمي بالمفهوم الجديد للتنمية.

ان الدستور يضيف التقرير، يمثل المرجعية الموحدة والجامعة للنموذج التنموي الجديد، لانه يكرس الاختيار الذي لا رجعة فيه في بناء دولة ديموقراطية يسودها الحق والقانون والتشبت بحقوق الانسان.

ان روح الدستور والمبادئ والقيم التي يكرسها مضمنة كليا في النموذج التنموي الجديد.

وهكذا فالتضامن وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية والحريات والاستدامة والمشاركة وربط الحقوق بالواجبات تشكل اسس لهذا النموذج.

من جهة اخرى يؤكد التقرير ان النموذج التنموي يعد امتدادا للدستور الذي يشكل اطاره المعياري من اجل ترجمة مبادئه الى رافعات للتنمية وقيمه الى مناهج للعمل.

كما يدعو التقرير الى اعمال ايجابي للدستور من اجل تقديم حلول مناسبة لحالات الاحتقان والكوابح التي تعترض التنمية ومن اجل تجاوز صعوبة تطبيق بعض المبادئ الدستورية.

وهذه هي الفقرة التي يصرح فيها التقرير ببداية الانحراف الاكبر عن الدستور، وذلك من خلال تغييب متعمد للركن الاساسي الذي قامت عليه الروح التوافقية التي تدمج بين الثوابت الجامعة ممثلة في الدين الاسلامي وثوابت الهوية الراسخة وبين القيم الديموقراطية، بينما تحولت القيم الاسلامية الى ضمير مستتر والى كلام هلامي حول روح الدستور والقيم التي يكرسها.

كما تم الاكتفاء بالاحالة على تصدير الدستور عند الحديث عن الهوية الدينية التي تجسد قيم الاسلام المبنية على الانفتاح والاعتدال والحوار والتي تشكل الشخصية التاريخية والثقافية للامة.

وأضاف التقرير ان منهج المغرب للولوج الى القيم الروحية عبر مقاربة دينية تمزج بين البعد العقدي والحضاري بالاضافة الى ترسيخ مبادئ الخير والوئام واعتماد مبادئ التداول والتشاور من اجل الصالح العام كلها عناصر تمثل الطابع المميز للمملكة.
كل هذه الصيغ للالتفاف على المرجعية الدستورية وعلى الاسلام الذي يتصدر الثوابت الاسلامية والمقومات التي تستند عليها الامة في حياتها العامة.

لقد تحول الاسلام من أول ثابت من ثوابت المملكة ومن صدارة الاختيارات الكبرى التي تستند عليها الامة في حياتها العامة الى مجرد كلام هلامي وتعابير فضفاضة وقيم منتقاة منزوعة عن سياقاتها ومجردة من مكملاتها، وفي غياب اي استدعاء لنص من النصوص التي ترمز اليها في الدستور، كما تحولت كذلك الى مجرد قيم روحية تحيل على قيم مبنية للمجهول.

اكثر من ذلك فان التقرير اعرب صراحة عن ضرورة تجاوز ما سماه “صعوبة تطبيق بعض النصوص الدستورية” و”بعض عناصر الاحتقان الدستورية” وذلك من خارج الاليات التي يفرضها الدستور نفسه وهي طرق تعديل الدستور، وخاصة ان بعض هذه القضايا هي محصنة اصلا من اي تعديل دستوري لانها تدخل ضمن الثوابت الجامعة.

وهنا يتعمد التقرير تغييب ثابت الاسلام والاكتفاء بالاحالة المجملة على تصدير الدستور وتجاوز الباب الاول منه، وكذا الفصول الاخرى المتعلقة بالاسلام مكتفيا بإيراد عبارة “الهوية الدينية التي تجسد قيم الانفتاح والاعتدال والحوار وتشكل الشخصية التاريخية والثقافية للامة”، في إعراض عن الاسلام بوصفه مرجعية للدولة والمجتمع ومستند الامة في حياتها العامة.
وفي موضع اخر يضيف التقرير ان ولوج المغرب الى القيم الروحية، وليس الدينية او الاسلامية، يتم عبر مقاربة دينية تمزج بين البعد العقدي والحضاري بالاضافة الى ترسيخ قيم الخير والوئام واعتماد مبادئ التداول والتشاور من اجل الصالح العام بوصف ذلك كله يمثل عناصر تكرس الطابع المميز للمملكة.

لكن يمكن التساؤل عن بماذا تشي هذه العبارات الجميلة وفيم الاعتراض عليها.

والجواب هو ان انها تعويض لعبارات ليست اجمل واكمل واتم وحسب، ولكنها ايضا العبارات التي تمثل المشروعية والمرجعية لكونها حازت على توافق الجميع اثناء صياغتها وحازت على المشروعية الديموقراطية اثناء التصويت عليها ولا سبيل الى استبدالها الا عبر الطريق الدستوري والديموقراطي وهو ما يغيب فيها ويمثل اكبر مثلب لها.

وفي الأخير ينتقل التقرير الى المذهب المالكي بسماته المميزة، وبقدرته على استلهام الحلول من “مدارس التفسير الاخرى”، وليس المذاهب الاخرى، فضلا عن الترسيخ الثابت والقدرة على مواكبة التطورات التي تمنحها له امارة المؤمنين، كلها يضيف التقرير عوامل تعطي الامة المغربية القدرة والمرونة الضرورية لتطورها كما تم اثبات ذلك من خلال اصلاح مدونة الاسرة. ويشكل هذا مصدر الهام ومعيارا منهجيا للنموذج التنموي الجديد.

ومن هذه النقطة تتضح المرافعة ضد الدستور ومن اجل شق منه.

أي اننا بازاء مرجعية موازية للدستور باستعمال بعض مفاهيمه وبعض مضامينه وبتر اخرى او فتح معانيها على مرام ومعان بعيدة عن مقصد المشرع الدستوري كما توضحه الاعمال التحضيرية.

وفي مقام اخر فان اقحام الحديث عن المذهب المالكي اثناء مناقشة المرجعية الدستورية، لا يعد سوى تراجعا عن بعض المكتسبات ومنها تمايز المغرب عن الدول المذهبية من خلال الاصرار على اعتبار المغرب “دولة مذهبية” وليست دولة اختارت مذهبا فقهيا، وكل هذا الخلط والتخبط يوضح بجلاء خطيئة ابعاد العلماء وخبراء العلوم الشرعية في تركيبة اللجنة التي اعدت النموذج التنموي وفي اعمالها ومشاوراتها، حيث تعد هذه الفقرة سقطة علمية ومنهجية خلطت بين المذاهب الاسلامية ومدارس التفسير، وبينت تناقض اقرار اعتماد مذهب فقهي وتجاوزه في القضايا التي لا تسعف، وادعاء ان المذهب يتوفر على اليات من داخله تسمح بتجاوزه الى مدارس اخرى كما تم في قضايا مدونة الاسرة من قبيل قضية الولي في الزواج او رفض اعتماد بعض الحلول المبتكرة في المذهب المالكي التي وفرت حلولا لبعض الاشكالات المعاصرة من داخل نفس المرجعية لا من خارجها، وهي الحلول التي تنزل البنت او الزوجة منزلة الشريكة او الاجيرة في الثروة المكتسبة، قبل توزيع التركة.
وهو الاستبعاد الذي يحاول ان يشرعن المطالبات، بتجاوز النصوص الدينية المحكمة والقطعية، كتلك المتعلقة بالارث وترك المجال لمزيد من الضغط على المرجعية الاسلامية بوصفه تمثل مصدرا للتمييز ضد المرأة من منظور واحدية الاتفاقيات الدولية وتمركزها على نمط الحياة الغربية.

ومن هنا فان ايراد المذهب المالكي في هذه الفقرة من تقرير النموذج التنموي، انما يتم بغرض استعمالي لتسويغ الانفلات من احكام المذهب المالكي باسم المرونة والاعتدال والحوار والقدرة على الابتكار ومواكبة التطورات في القضايا المفروضة والمملاة على المذهب المالكي، اما في القضايا من قبيل انتاج الثروة وتوزيعها وتداولها وعدم احتكارها او اكتنازها ومنع الفوئدة الربوية ودرء الفاحش منها بما بقي منها على السواء والاكتفاء برؤوس الاموال وعدم الظلم او التظالم فيها ومنع الخمور التي هي سبب بلاء الاسر وتفككها او اشتراط الولي كضمانة لفائدة المرأة والزواج للمبكر والرضائي المجفف لمنابع الرذيلة والفاحشة وعدم الاكراه في السياسة وفي الانتخابات وتجريم الزور والفواحش فذلك بعيد كل البعد عن المذهب المالكي وعن فقهائه وعن المفهوم الجديد للتنمية والنموذج التنموي برمته.

ان مفهوم التنمية الجدير بالتبني في النموذج التنموي الجديد هو مفهوم شامل ومتعدد الابعاد وليس مجرد تراكم للثروة المادية او للقيمة المضافة المتولدة منها، بقدر ما هو دينامية متنامية لانتاج الثروة وتثمين الموارد ومصادرها لفائدة كافة المواطنين وكافة الاجيال ضمن سياق تاريخي وحضاري يشكل طريقا جماعيا نحو مستقبل مشترك ومواكب للتحولات الدولية ويمتع بشكل استباقي من المخاطر الكونية ويقي منها.

ومن هذا المفهوم الواسع للتنمية يمكن الانطلاق لتبني اطار معرفي وفلسفي لنموذج اسري وقيمي يتاسس على منظور توحيد اصلاحي قائم على قيم التراحم والتكامل والتواد والتساكن والتعارف والاحسان والمعروف بدل المقاربة التفكيكية القائمة على قيم التعاقد والندية والتصارع والاثرة المفضي الى التفكك والاباحية ومصادمة الفطرة الانسانية والسنن الكونية.

ثالثا: موقع الاسرة في النموذج التنموي لمغرب الغد

تناولنا في الحلقة الماضية الاسرة والقيم فيما يخص التحولات الوطنية والدولية ثم ما يهم الاطار المرجعي .
وفي هذه الحلقة سوف نتناول موقع الأسرة والقيم كما يستشرفها النموذج التنموي في نقطتين، تتعلقان بالانتماء والمصير المشترك، والطموح الجماعي من اجل مغرب الغد.

على ان نناقش الموضوع في نقطتين اخريتين تتعلقان بالمرجعية الجديدة للتنمية وبالمحاور الاستراتيجية للتحول في الحلقة المقبلة.

1- انتماء ومصير مشترك:

في الاطار رقم 6، وتحت عنوان انتماء مشترك ومصير مشترك، اكد التقرير على ان المملكة طورت هندسة توافق واسع وشامل تستمد جدورها من ثقافة عريقة تعددية ومنفتحة على المستقبل.

ويضيف بان متانة الهوية المغربية هي التي سمحت للمجتمع المغربي بالانفتاح على روافد جديدة عربية اسلامية وافريقية واوربية اطلسية واسيوية، وفقا لما عبر عنه الدستور بإبرازه لتنوع مقومات الهوية الوطنية الموحدة بانصهار كل مكوناتها العربية الاسلامية والامازيغية والصحراوية والحسانية والغنية بروافدها الافريقية والاندلسية والعبرية والمتوسطية.

وتبين هذه الاسس التاريخية من وجهة نظر مجتمعية، يضيف التقرير، ان المغرب يمتلك مكامن القوة اللازمة التي تمنحه القدرة على ان تتعايش تحت مظلته مختلف التيارات وتتحاور مختلف التوجهات وتتمازج طوائف داخلية وخارجية لتسيير اموره، ليثبت في نهاية المطاف انه قارد على المشاركة في اغناء الانسانية.

هذه المؤهلات على حد تعبير التقرير، تمكن من خلق الاسس الكفيلة بتقوية الانتماء المشترك وتحويل الطاقة الجماعية الى مصير مشترك.

وبهذا يخلص التقرير الى ان بلادنا تمتلك القدرة على تحويل مزايا ثقافتنا السياسية الفريدة الى رافعات قوية في اطار دولة الحق والقانون ذات معالم واضحة.

ان المحك هو تحويل التعددية الى ديموقراطية فعلية تمثيلية وتشاركية، وهو ما يلاحظ اختفاء هذه الكلمة السحرية التي كادت تتحول خلال العشرية المنصرمة الى دين قائم بذاته، قبل ان تتحول في لغة التقرير من فن ادارة الاختلاف والتنوع والرغبة في النقاش والمناظرة المثمرة الى تعبيرات من مثل “كفاءة تداولية” والى الجمع بين الرؤية الاستراتيجية والحماية والكفاءة على مستوى الدولة، والى قدرة على الابتكار والمبادرة وروح المدنية على مستوى المجتمع.

ضمن هذا الاطار المفاهيمي والقيمي يتموقع مفهوم الاسرة ومفهوم القيم الجامعة، سواء في شقها المتعلق بالهوية وبثابت الدين الاسلامي او فيما يتصل بثابت الاختيار الديموقراطي، وتغييب كل ذلك وتهميشه والغائه من حسابات المفهوم الجديد للتنمية الذي صار مرجعا جديدا للنموذج التنموي الجديد يزاحم المرجعية الدستورية ويحل محل الثوابت الجامعة، ومن هذه الزاوية ينظر النموذج التنموي لها.

ان السؤال الاساس اثناء صياغة هذا المحور المتعلق بالانتماء والمصير المشترك هو اين اختفت السمات والخصائص التي يمكن استيفاؤها من ثابت الدين الاسلامي وثابت الاختيار الديموقراطي ومن القيم المتعلقة بالتلاحم المجتمعي ودور الاسرة والمجتمع المدني في احتضانه وتنميته ؟ هل هو ناجم عن الخلفية التقنية لمعدي التقرير ونتيجة طبيعية لهيمنة خطاب الخبرة ولغة الخبراء على المعرفة ولغة السياسة في تشكيل اللجنة وعملها ام هو اختيار قاصد ناتج عن الانحياز لاطروحة التنمية بدون ديموقراطية وبعيد عن الهوية؟

ومن اين استقى التقرير الروافد الاوربية اطلسية واسيوية، التي اضافها الى التعبير الدستوري الوارد في التصدير والذي يؤكد ان “المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة وتلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية – الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية”.

فهل الروافد الاوربية الاطلسية والاسيوية استدراك على الدستور ام هو مقدمة لشرعنة قضايا اخرى قيمية او لغوية او تاريخية؟.
ان الاستقراء المفاهيمي يسمح بترجيح القصدية والانحياز الى لغة الخبرة على حساب المعرفة والى ترجيح التقني على حساب السياسي ومنظور التنمية من فوق على حساب التنمية التشاركية وكذا محاولة للتلاعب بالنصوص الدستورية وتطويعها لتبرير اختيارات قيمية او ثقافية او فكرية.

وفي اختيارات من هذا النوع طبيعي ان تغيب القيم الجمعية الاجتماعية والاسرية لفائدة قيم فردية وذاتية، وطبيعي ان يتم الانحياز الى الشق المتحول والمتغير على الشق الثابت في انتمائنا المشترك، اي ان يغيب العنصر الاهم في التلاحم الوطني والتجانس المجتمعي لفائدة عناصر التنوع والتعدد والتميز الفرعي.

وطبيعي ان يتم تغييب الرافع الديموقراطي والسياسي للعمل التنموي لفائدة ما هو تقني ورقمي.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M