قناديل الحكم
هوية بريس – دة.صفية الودغيري
تخلَّص من الفضولِ والكثرة والزِّيادة المفرطة في كلِّ أحوالك وشؤون حياتك، فكلُّ ما زاد عن حدِّ الضَّرورة والحاجَة، ولم تتحقَّق فيه الغاية المَرْجُوَّة وبلوغ المَأْمول والهدف الأَسْمى، وتحصيل الفائدة والمنفعة، صار ضارًّا لروحك ُمْهِلكًا لجسدك..
فإذا تخفَّفت وتطهَّرت، واقتصدت وأنصفت؛ ملكت نفسك ووقتك، وحكمت فِعْل الزِّيادَة على النِّظام والتَّرتيب ابتداءً من نفسك، والتمست من الأقوال والأفعال تحصيل ثوابها، والرَّغبة الوافِيَة في الزُّلْفَة والارتقاء بها. حتّى تبلغ مراتب النَّفْسِ الزَّاكِيَة، وأَفْضَل أحوال العامِلين، وأَعْلى مَنازِلِ العابدينَ السّالكين مدارج وأسباب خُلوصِ الدِّين، وصِحَّة اليَقين ..
وإذا تخفَّفت وتطهَّرت، واقتصدت وأنصفت؛ خلوت بنفسك وعالجت أسقامها وأمراضها ووسواسها، وتعمَّقت في الارتقاء بروحك، والسُّمو بخطراتِ قلبك، وتَفَكَّرت وتَدَبَّرت في دقائق الاعتبار، وتهذيب السُّلوك والأخلاق، وتفرَّغت لإصلاح وتغيير ما يلزمك إصلاحه وتغييره، وهذَّبت جِدَّك واجتهادك وجعلته غنيمة صحَّتك، وجعلت هدفك وغايتك عدم التَّقْصيرِ في طاعَةِ خالقِك، وتحصيل العِلْم والعمل الصّالح فرصة انتهازك، واغتنام فراغ أوقاتك، فليس كلُّ الزَّمانِ مُسْتَسْعَدًا ومُسْتراحًا، ولا كلُّ ما فاتك تحصيله من العلوم والمعارف والأعمال مُسْتَدْرَكًا..
وإذا تخفَّفت وتطهَّرت، واقتصدت وأنصفت؛ ستتعلَّم أنَّ من الفضول والكثرة المُفْسِدَة المُضٍرَّة أن تجمع حولك كثرة الأصحاب والمَجالِس، وأنَّ مِنْ شَرِّ الِاخْتِيار مَوَدَّة الأشرار..
وأنَّ من الإنصاف والاقتصاد أن تختار صُحْبَةَ الأَخْيار، وتحذر من تُصاحِب وتُجالِس، وتُصافي وتُؤانِس وتُشاكِل؛ لأَنَّ لِلْمُصاحَبَة تَأْثِيرًا في اكْتِسابِ الأَخْلاق، وكما قَال النَّبِيُّ -صلَّى اللَّه عليه وسلَّم-: (الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ).
وكانت العرب تقول: “لَوْلا الوِئامُ لَهَلَكَ الأَنامُ“.
ولِأَبي بَكْرٍ الخُوارِزْمِيِّ:
لَا تَصْحَبْ الْكَسْلَانَ فِي حَالَاتِهِ … كَمْ صَالِحٍ بِفَسَادِ آخَرَ يَفْسُدُ
عَدْوَى الْبَلِيدِ إلَى الْجَلِيدِ سَرِيعَةٌ…وَالْجَمْرُ يُوضَعُ فِي الرُّمَاعِ فَيَخْمُدُ
فاختر الصًّفْوة في الصُّحْبَة من يحثُّك على لُزومِ القواعد والثَّوابت، والتَّمسُّك بالأصول والفروع، ومن يفقِّهُك بعيوبك ومساوئك، ويُبَصِّرُك بما فيه الخير، والمصلحة والمنفعة لك في دينِك ودُنْياك، ومن يُقرِّب إليك أسباب ارتقاء منازل التَّقوى والعفَّة، والزَّهادة في الدُّنيا، ويٌعَجِّل لك الرَّغبة في الإقبال على أعمال الآخرة، ويُذيقُك من لذّات صفاء الخُلَّة، وحلاوة الوِصال الصّادِق في المحبَّة، والإخلاص في القِرْب والطّاعة، ويُعينُك على تخليد ذِكْرِك الحسن، وأَثَرِك الطَّيِّب..
عن مُحَمَّدِ بْنِ السَّمَّاكِ، قَال: “الْأَخْذُ بِالأُصولِ وَتَرْكُ الفُضولِ مِنْ فِعْلِ ذَوِي العُقول”.
وقال أبو حفص عبد الجبار بن خالد السرتي -وكان من عقلاء شيوخ إفريقية. سمع من سحنون وعليه اعتماده-: “لو أَهَمَّكَ شَأْنُكَ لكَلَّ لِسانُكَ وتَهَيَّجَتْ أَحْزانُك، ولولا الفُضولُ لصَفَتْ العُقول، ولكانَ المَجْهولُ عندها مَعْقولاً، ولكِنْ بكَثْرَةِ الفُضولِ تَكَدَّرَت العُقول، وكان المَعْقولُ عِنْدَها مَجْهولاً، ومَنْ كانَ باللَّيْلِ نائِمًا، وبالنَّهارِ هائِمًا متى يَنالُ الغَنائِم؟”.
وقال أبو سليمان الدّاراني (ت 215هـ): “مِفْتاحُ الآخِرَةِ الجوعُ، وَمِفْتَاحُ الدُّنْيَا الشِّبَعُ، وَأَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ في الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ الخَوْفُ مِنَ اللَّهِ”.