د.الريسوني يكتب: التبذير ملة واحدة.. من المال إلى الماء
هوية بريس – د.أحمد الريسوني
وأخيرا بدأت الحكومة تعترف وتصرح بخطورة نقص الماء بالمغرب، بل إنها – فيما يبدو – قد شمرت وتحزمت، للعمل على تقليص استهلاكه ومنع تبذيره..
ولكنها، بدل اعتماد سياسة التوعية والتثقيف والترشيد والتحفيز الذاتي للمجتمع، بادرت إلى إبراز عضلاتها ورفع عِصِيها، وبدأت تضربِ ذات اليمين وذات الشمال. ورفعت شعارها المفضل: “أول الدواء الكيّ”.
وهكذا بدأت قائمة الممنوعات والعقوبات تتمدد طولا وعرضا..
والعقوبات في الغالب تصيب الضعفاء وتغض الطرف عن الأقوياء. وحتى الضعفاء قد يجدون من الحيل والمخارج ما ينجيهم من المنع والقمع.. ونتذكر هنا كثرة ما عندنا من قوانين قمع الغش، ومديرية قمع الغش، والمفتشية العامة لمحاربة الغش.. الخ، ولكن النتيجة توحي وكأَنّ كل تلك القوانين والمؤسسات مكلفة بنشر الغش، لا بمحاربة الغش!
إن محاربة الآفات الاجتماعية المستشرية، تحتاج إلى ثورة ثقافية أخلاقية كاسحة. والأمر في المجتمعات الإسلامية قريب المنال، لو توجد الرغبة الحقيقية والعزيمة الصادقة لذلك. لكن الواقع هو أن حكوماتنا المتعاقبة ينطبق عليها قول الشاعر:
كالعيسِ[1] في البيداء يقتُلُها الظما ***والماءُ فوق ظهورِها محمولُ
فعندنا من الحوافز الإيمانية، والثقافة الإسلامية، والآداب الشرعية، ما يتيح العلاج الفعال والسريع لكثير من الآفات والأمراض الاجتماعية. ولكن الدواء إنما يداوي من استعمله وأحسنَ استعماله، وواظب عليه بالقدر المطلوب. أما حكوماتنا فتبدو متشبعة بشعاراتها الصورية، متشبثة بشكلياتها الحداثية، ولا تريد أن تظهر وكأنها حكومة ملتحية، أو حكومة متحجبة، أو أنها تستنجد بالدين. وحتى حكومتنا الملتحية المتحجبة، كانت تعمل على إخفاء لحاها وحجب حجابها، إلى أن حُجبت هي نفسها!
التلقيح ضد التبذير
تبذير الماء والإسرافُ في استهلاكه مشكلة مزمنة وآفة مستشرية. فهي بحاجة دائمة إلى نشر ثقافة الاعتدال والاقتصاد، وبحاجة دائمة إلى حملات التلقيح ضد الإسراف والتبذير.
وقد أمرنا الله تعالى بالاعتدال والتوسط في عموم حياتنا وسلوكنا، ونهى عن الإسراف والتبذير في كل أمورنا وأحوالنا.. فالتبذير والإسراف والإفراط مرض وانحراف، أيا كان مجاله وسببه.
وها هو الدواء القرآني، الذي يجب استعماله وتطعيم النفوس به، والاعتياد عليه، في كل وقت وحين:
-{يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]
-{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]
-{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 26، 27]
-{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]
وحتى الدعاء يمكن أن يقع فيه إسراف واعتداء، فذلك أيضا مذموم ومرفوض شرعا: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]
استهلاك الماء نموذجا
أهم شيء يستعمل فيه الماء هو الشرب، والطهارة. وللطهارة الشرعية قيمة إضافية، وهي كونها عبادة. ومع ذلك وجدنا الشرع يمنع الإسراف في الأمرين معا. ففي الشرب قال تعالى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]. وفي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا، في غير مخيلة ولا سرف. ان الله يحب ان ترى نعمته على عبده).
وأما في الطهارة الشرعية (الوضوء والاغتسال)، فجاءت أحاديث عدة في الحث على تقليل استهلاك الماء، والنهي عن الإسراف فيه، أذكر منها:
-في سنن النسائي: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بمد ويغتسل بنحو الصاع.
-وفي سنن الترمذي: باب كراهية الإسراف في الماء. عن أُبيّ بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إن للوضوء شيطانا، يقال له: الولهان، فاتقوا وسواس الماء.
-وقال القاضي عياض في (مشارق الأنوار على صحاح الآثار):
“الإسراف في الوضوء: هو مجاوزة الحد الشرعي فيه من إكثار الماء، أو فوق ثلاث، أو زيادة الحد في المغسول”.
-وفي سنن أبي داود: أن عبد الله بن مغفِّل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: أي بني، سلِ الله الجنة وتعوذ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء).
التبذير ملة واحدة
القاعدة عندنا أن (الكفر ملة واحدة). والتبذير نوع من الكفر وشعبة من شعبه؛ فهو كفر بالنعمة وقيمتها وفضلها. والكفر بالنعمة ينجم عن ضعفٍ – أو انعدام – في تقدير النِّعم والشعورِ بالأمانة والمسؤولية تجاهها..
ومحاربة التبذير لا يمكن أن تكون ناجحة وناجعة، إذا هي قُصرت على مجال معين أو وقت معين، دون سواه، فالتبذير ليس خاصا بالمال أو بالماء، وليس حالة موسمية عابرة، بل هو نمط في السلوك وأسلوب في الحياة، تقوده الدولة ونخبها، ثم ينجر إليه المجتمع بعد ذلك.
والذين يبذرون الأموال والثروات، يبذرون الأزمان والأوقات. والوقت أغلى وأخطر من المال؛ فإن المال يكتسب ويستدرك، وليس كذلك الوقت والعمر.
ونحن نعاني من تبذير المسؤولين وتضييعهم الصارخ للمال العام، أكثر بكثير من معاناتنا مع تبذير الأفراد لأموالهم الخاصة ومقتنياتهم الزائدة..
ومن أبشع مظاهر التبذير وكفران النعمة: تلك المأكولات والمواد الغذائية المضيعة والمرمية بالأطنان، والناس يتضورون جوعا!
وفي صحيح الإمام مسلم: “باب استحباب لعق الأصابع والقصعة، وأكل اللقمة الساقطة بعد مسح ما يصيبها من أذى، وكراهة مسح اليد قبل لعقها”.
فانظروا وتعلَّموا – رحمكم الله – كيف تكون محاربة التبذير..
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] العيس: نوع من الإبل. والمقصود هنا الإبل عموما.