المسلم الرسالي وانحراف أقاربه

22 سبتمبر 2024 11:20

هوية بريس – د.رشيد بنكيران

♦ بين ضغظ المحيط ومواساة الرحمن

◆ في قصص القرآن الكريم نجد دروسًا عظيمة تتعلق بتجارب الأنبياء والرسل مع أقاربهم الذين لم يتبعوا طريق الاستقامة والصلاح. هذه القصص تحمل في طياتها مواساة للمسلم الرسالي (=حامل همّ رسالة الإسلام) الذي يواجه ابتلاء صعبا بانحراف أحد أقاربه، سواء كان أبًا، أمًا، أخًا، أختًا، ابنًا، أو حتى زوجًا. هذا الابتلاء يشكل أحد أكبر التحديات التي يمكن أن تواجه المسلم الرسالي في حياته الدعوية، حيث يظن البعض أن صلاح المسلم الرسالي (المصلح، الداعية، الخطيب، الإمام، العالم، الفقيه) يجب أن يظهر بوضوح في سلوك أقاربه.

◆ هناك اعتقاد شائع بين الناس بأن المسلم الذي يتمتع بفهم عميق للدين يجب أن يكون قادرًا على التأثير في أقاربه، وأن أي انحراف في سلوكهم يُعد انعكاسًا لنقص في دعوته أو في مستوى تدينه. وقد تُترجم هذه الفكرة الشائعة في العبارة العامية الدارجة على الألسن: “لو كان الخوخ يداوي كون داوى راسو”، أي إذا كان الشخص حقّا صالحا وملهما ونافعا، لانتفع به أقرب الناس إليه وتأثروا به. هذه الفكرة تُشكِّل ضغطا نفسيا كبيرا على المسلم الرسالي، حيث يتحول انحراف قريبه إلى طعن في تدينه ونقص في إيمانه وقصور في فهم واقعه، ويعيش حالة من العذاب الداخلي، يلوم فيها نفسه ويتهمها بالتقصير في حق قريبه. وليس هذا فحسب، بل في بعض الأحوال قد يصل الأمر إلى أن يتسرب الشك للمسلم الرسالي في منهجه الدعوي ويطالب نفسه بمراجعات، وليس هذا عيبا في حد ذاته، وإنما العيب أن يكون الباعث لذلك نظرات الناس وضغط الفكرة الشائعة عليه.

◆ هذا، ولأن الله تعالى يعلم ما يمر به المسلم الرسالي من ألم نفسي وضغط معنوي بسبب انحراف أقاربه، فقد قصّ علينا في القرآن الكريم قصصًا عن الأنبياء والرسل، وهم صفوة البشر وأفضلهم في الإيمان والتقوى، ورغم ذلك ابتلوا بأقارب لهم كانوا بعيدين عن الحق وصالح الأخلاق. هذه القصص تأتي لتسلي المسلم الرسالي وتؤنسه في مساره الدعوي، وتخفف عنه ضغط الأفكار الشائعة المغلوطة، وتؤكد له أن انحراف الأقارب لا ينقص من قيمته ولا من صدق دعوته وصواب منهجه واستقامة طريقه.

◆ نماذج من قصص الأنبياء والرسل:

1. قصة نوح عليه السلام مع ابنه: رغم أن نوح عليه السلام كان نبيًا مرسلاً وداعيًا للحق على مدى سنوات طويلة، ومنوعا أسلوب دعوته بين الترغيب والترهيب، وبين السر والعلن، إلا أن ابنه رفض الإيمان ولم يركب فلدعوة ي سفينة التوحيد والنجاة، واختار الغرق في الطوفان. قال تعالى:

“وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبۡنَهُۥ وَكَانَ فِی مَعۡزِلࣲ یَـٰبُنَیَّ ٱرۡكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ” (هود: 42).

2. قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه آزر: سيدنا إبراهيم، رغم مقامه العظيم كخليل لله سبحانه وتعالى ورسول من أولي العزم وأب للبشرية في التوحيد، وتوظيف دليل الفطرة في الدعوة، والحجج العقلية، واستعمال اللين في الأسلوب مع أبيه: {إِذۡ قَالَ لِأَبِیهِ یَـٰۤأَبَتِ لِمَ تَعۡبُدُ مَا لَا یَسۡمَعُ وَلَا یُبۡصِرُ وَلَا یُغۡنِی عَنكَ شَیۡـࣰٔا ۝٤٢ یَـٰۤأَبَتِ إِنِّی قَدۡ جَاۤءَنِی مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَمۡ یَأۡتِكَ فَٱتَّبِعۡنِیۤ أَهۡدِكَ صِرَ ٰ⁠طࣰا سَوِیࣰّا ۝٤٣ یَـٰۤأَبَتِ لَا تَعۡبُدِ ٱلشَّیۡطَـٰنَۖ إِنَّ ٱلشَّیۡطَـٰنَ كَانَ لِلرَّحۡمَـٰنِ عَصِیࣰّا ۝٤٤ یَـٰۤأَبَتِ إِنِّیۤ أَخَافُ أَن یَمَسَّكَ عَذَابࣱ مِّنَ ٱلرَّحۡمَـٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّیۡطَـٰنِ وَلِیࣰّا ۝٤٥﴾ [مريم]، قلت: رغم كل هذا لم يستطع أن يهدي أباه الذي بقي متمسكًا بعبادة الأصنام، قال تعالى: {وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰهِیمُ لِأَبِیهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصۡنَـٰمًا ءَالِهَةً إِنِّیۤ أَرَىٰكَ وَقَوۡمَكَ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ} (الأنعام: 74).

3. قصة لوط عليه السلام مع زوجته: لوط عليه السلام، الذي أرسل لهداية قومه، ابتُلي بأن تكون زوجته من الكافرين الذين رفضوا دعوته. بل ومن المنخرطين في خيانة دعوته ومحاربتها، قال تعالى: {فَأَنجَیْنَاهُ وَأَهْلَهُۥۤ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ كَانَتۡ مِنَ ٱلۡغَـٰبِرِینَ} (الأعراف: 83).

4. قصة محمد عليه الصلاة والسلام مع عمه أبي طالب: الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، الذي كان خير البشر وأكملهم خلقًا ودعوةً، وأعلمهم بالله وأتقاهم، وأشدهم حرصا على هداية الناس، لم يستطع أن يهدي عمه أبا طالب الذي ظل على دين آبائه حتى وفاته. قال الله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهۡدِی مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ یَهۡدِی مَن یَشَاۤءُۚ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِینَ} (القصص: 56).

♦الخلاصة:

إن هذه القصص وغيرها تأتي كنوع من الرحمة الإلهية للمسلم الرسالي الذي قد يواجه ابتلاءً بانحراف أحد أقاربه. فهي تؤكد أن هذا الابتلاء ليس نقصًا في الدعوة ولا في الإيمان، بل هو سنة من سنن الله في خلقه. ليست مسؤولية من يحمل همّ الرسالة المحمدية أن يغير قلوب الناس، فالهداية بيد الله وحده. ولذا، ينبغي على المسلم الرسالي؛ مربيا كان أو مصلحا، داعية كان أو خطيبا، عالما كان أو فقيها، أن يستمر في دعوته وصبره واصطباره، ولا يجعل من انحراف أقاربه مصدرًا للشك في دعوته أو طريقه.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M