دار العجزة ذلك البنيان غير المرصوص..
هوية بريس – ذ.محمد بوقنطار
إنه بنيان على ما فيه من خير وإحسان، إلا أنه كالخمر والميسر إثمه أكبر من نفعه، ففكرته وفلسفته دخيلة على مجتمعاتنا المسلمة، يوم كان البيت من الصفيح أو القصدير، والكوخ من الطين والهشيم يأوي الجد والجدة، والأب والأم، والنجل والحفيد، والعمة الأرملة، والخالة المطلقة، الشمعة فيه مصدر النور للكل، وطعام الاثنين في صحفته يكفي الثلاثة، وفراش الواحد يستوعب الأربعة، وملبس الكبير على مقاس الجل، وسترا للكل نوبة وتناوبا، ويوم كان المنطق السائد هو قول رسولنا عليه الصلاة والسلام: “أنت ومالك لأبيك“.
واليوم ترى البيوت المزخرفة الفسيحة الواسعة الضاربة في الطول والعرض من المغاني والضيعات الفلاحية العصرية، والشقة المطلة على البحر، تضيق بالبعل وزوجه، ووحيدهما وحيد القرن، ورابعهم كلبهم المهجن الباسط ذراعيه بذلك الوصيد والرواق، القاطن في بيته الخشبي الوثير على الأثير…
يا الله لقد تغيرت الحال، فصار للعجزة دار ومأوى بعيدا عن كنف الأبناء وحضن المؤنسات الغاليات، وإنما العجزة ليسوا هاهنا إلا أولئك الآباء والأمهات الذين جاعوا لكي نشبع، وحزنوا لكي نسعد، وتعروا لكي نتدثر، وتجردوا من كل قشيب لكي نتزمل، وسهروا لكي ننام، وسقموا لكي نصح ونسلم، وأنفقوا لكي نتعلم، وصمتوا لكي نتكلم، وتعبوا ولم يتسخطوا من لغوب، ونصبوا كي نمرح ونستريح…
وبعد هذا العمر الحافل بالعطاء والطافح فنجانه بالإيثار والسخاء والتضحية والبكاء، يكون الجزاء من غير جنس العمل، فيضيق هذا البيت الواسع حتى لا يكادون يجدون لهم فيه ركنا قصيا، ولا مكانا عليا، ولا سريرا حفيا، ولا قلبا حنيا، ولا كسرة خبز جفيا…
ألا لعنة الله على كل عاق قد آثر على أبيه وأمه صاحبته وبنيه، وصهره وسليفه، فوالله إنه لدين وعارية مسترجعة سيؤدي صكها وسيذوق من علقم كأسها، وسيرى لا محالة المناكدة الأوفى من نسمة صلبه ولو بعد حين.