مناظرة في المنطق؛ درس وعبرة
د. عبد الله الشارف*
هوية بريس – الإثنين 27 يناير 2014م
قال أبو حيان التوحيدي في كتابه؛ “الإمتاع والمؤانسة”:
“لما انعقد المجلس سنة ست وعشرين وثلاثمائة، قال الوزير ابن الفرات للجماعة: ألا ينتدب منكم إنسان لمناظرة متى (بن يونس القنائي المسيحي) في حديث المنطق، فإنه يقول: لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل، والصدق من الكذب، والخير من الشر، والحجة من الشبهة، والشك من اليقين، إلا بما حويناه من المنطق وملكناه من القيام به، واستفدناه من واضعه على مراتبه وحدوده، فأطلعنا عليه من جهة اسمه على حقائقه..
فقال أبو سعيد السيرافي النحوي: حدثني عن المنطق ما تعني به؟.. قال متى: أعني به أنه آلة من آلات الكلام يعرف بها صحيح الكلام من سقيمه، وفاسد المعنى من صالحه، كالميزان، فإني أعرف به الرجحان من النقصان، والشائل من الجانح.
فقال أبو سعيد: أخطأت، لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالنظم المألوف والإعراب المعروف إذا كنا نتكلم بالعربية. وفاسد المعنى من صالحه يعرف بالعقل إذا كنا نبحث بالعقل.. ودع هذا؛ إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها، وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها، فمن أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب، أن ينظروا فيه ويتخذوه قاضياً وحكماً لهم وعليهم، ما شهد لهم به قبلوه، وما أنكره رفضوه؟ قال متى: إنما لزم ذلك لأن المنطق بحث عن الأغراض المعقولة والمعاني المدركة، وتصفح للخواطر السانحة والسوانح الهاجسة؛ والناس في المعقولات سواء. ألا ترى أن أربعةً وأربعة ثمانية، سواءٌ عند جميع الأمم، وكذلك ما أشبهه.
قال أبو سعيد: لو كانت المطلوبات بالعقل والمذكورات باللفظ، ترجع مع شعبها المختلفة وطرائقها المتباينة إلى هذه المرتبة البينة؛ في أربعة وأربعة وأنهما ثمانية، زال الاختلاف وحضر الاتفاق، ولكن ليس الأمر هكذا، ولقد موهت بهذا المثال، ولكم عادة بمثل هذا التمويه؛ ولكن مع هذا أيضاً إذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يوصل إليها إلا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف، أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة؟ قال: نعم. قال: أنت إذاً لست تدعونا إلى علم المنطق، إنما تدعونا إلى تعلم اللغة اليونانية.. ولا سبيل إلى إحداث لغة في لغة مقررة بين أهلها”[1].
إن السيرافي عندما قال :”إذن لست تدعونا إلى علم المنطق، إنما تدعونا إلى تعلم اللغة اليونانية” فهو يشير إلى أن منطق أرسطو هو نحو اللغة اليونانية مثلما أن النحو العربي هو منطق اللغة العربية. ومن هنا كان تطبيق المنطق الأرسطي على اللغة العربية بمثابة “إحداث لغة في لغة مقررة بين أهلها” وهذا كلام عميق وبديهي، إذ لكل لغة منطقها ولكل منطق لغته.
«ولقد أوضح “بنفنيست” صلـة المنطق بالنحو حينما برهن أن المقولات المنطقية كما ذكرها أرسطو هي نقل لمقولات اللغة الخاصة باليونانيين، مصطلحات فلسفية ليس إلا. ويقول سنة 1952م: “فتبين أن المقولات الذهنية وقوانين الفكر لاتقوم، وإلى حد بعيد، إلا حين تعكس تمضية المقولات اللسانية وتوزيعها.
إن كل الأبحاث اللسانية الحديثة، من دي سوسير إلى ريتشارد وأوغدن، إلى شومسكي، تبين أن العلاقات النحوية في اللغات هي علاقات منطقية، أي تعكس في بنيتها التصور السببي في منظور أمة ما للعلاقة بين العلة والمعلول. وبذلك يكون الجرجاني على حق حين يقول في باب توخى معاني النحو:” ليس الغرض بنظم الكلم ان توالت ألفاظها في النطق. بل إن تناسبت دلالتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقـل”. أي معقول اللغة في ذاته. وهو ما يشرحه بعد قليل في قوله إن “معاني النحو التي يقصدها ليست بمجرد رفع الفاعل ونصب المفعول- فذلك من ثوابت اللغة»[2].
إن المستغربين في بلادنا من المتفرنسين الفرنكوفونيين، ومن الحداثيين المقلدين، يسعون جادين لـ”إحداث لغة (الفرنسية) في لغة مقررة بين أهلها”. وهو عمل شنيع وخطير، يستهدف ثوابت وهوية المغاربة؛ من لغة، ودين، وتاريخ، وحضارة. إن اللغة الفرنسية لها منطقها وتاريخها وحضارتها؛ أي مجموع حمولتها وبنياتها الداخلية. فإلى أي منطق يستند هؤلاء المستغربون، حينما يحلمون بإحلال لغة أجنبية مكان لغة تاريخية وحضارية قائمة؟ أو بعبارة أخرى؛ يعملون على استنبات لغة المستعمر في ذات وكيان الشعب المغربي، الأبي المسلم الكريم. ورغم أن كلام أبي سعيد السيرافي مر عليه أكثر من عشرة قرون، فإن مفعوله لا زال حيا. وهذا من مميزات تراثنا الفذ العظيم الذي لا تنضب عيونه ولا تنقضي عجائبه، كما أنه دوما في تجدد وعطاء. وكأني بعالمنا يخاطب، من خلال هذه المناطرة، المستغربين من أبناء جلدتنا الذين استلبهم الغرب، فآثروا استبدال هويتهم، والذوبان في لغته وثقافته.
يقول الأستاذ الكاتب عبد الكريم غلاب في كتابه: “من اللغة إلى الفكر”: “إن اللغة ليست أداة معرفة فحسبن ولكنها كيان ثقافي. ويوم تتخذ أمة أو يتخذ شعب ما لغة علمية له غير لغته الأساس، سيكون مستعدا لن يطرح أسس ثقافته الأساس، وكل مقوماتها الحضارية ليندمج في ثقافة اللغة التي اعتنقها. اللغة توحي. وأكثر من الإيحاء أنها تنقل من الفكر ومن الفعل ومن الممارسة ومن البعد الحضاري كل ما اختلط بها.. تنشقل كل ذلك إلى الشعب الذي اقتبسها. وشيئا فشيئا يندمج من يشعر أو لا يشعر، وشيئا فشيئا يلغي كل مقوماته وكيانه، لتصبح له مقومات أخرى مستعارة، وكيانا آخر مستعارا.. وأعتقد أن شعوبنا التي تخلصت من الاستعمار لأنه كان السبيل لنقلها لتكون على مثال الدول المستعمرة، غير مستعدة لتأخذ سبيلا أخرى لهذه النقلة وهي اللغة”[3].
[1]– ابو حيان التوحيدي: “الامتاع والمؤانسة”، منشورات مكتبة الحياة بيروت، د.ت، ص:108 وما بعدها.
[2]– د. محيي الدين صبحي “أثر اللغة العربية في العقل العربي” (عند باتاي والجابري)، مجلة دراسات شرقية (جمعية الدراسات الشرقية باريس)، عدد: 817، 1990 (ص:123).
[3]– عبد الكريم غلاب: “من اللغة إلى الفكر”، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1993، (ص:79-80).
*- د. أبو عبد الرحمن عبد الله الشارف؛ كلية أصول الدين/جامعة القرويين/ تطوان المغرب. ربيع الأول 1435/يناير2014.