د.بنكيران: معاملة “دارت أو القرعة” جائزة لا حرج فيها ومستحبة إذا اقترنت بنية حسنة
هوية بريس – د.رشيد بن كيران
◆ يشير مصطلح “دارت” في العرفي المغربي إلى معاملة مالية معاصرة، تُنظم بين مجموعة من الأفراد، يتفقون فيما بينهم على دفع كل واحد منهم مبلغا محددا من المال متساويا لما يدفعه الآخرون في وقت معين مثلا عند بداية كل شهر، وتسلم المبالغ المدفوعة كلها إلى واحد منهم في الشهر الأول، وفقاً لترتيب يُحدد غالبا عن طريق القرعة، وفي الشهر الثاني تسلم المبالغ المدفوعة من جديد لعضو آخر، وهكذا دواليك حتى يحصل كل فرد من تلك المجموعة على المبالغ نفسها التي حصل عليها من قبله من الأعضاء دون زيادة أو نقصان. وتُعتبر هذه المعاملة بالتفسير المذكور آنفا شكلاً من أشكال القرض بالمعنى العام.
◆ و”دارت” معاملة معاصرة واسعة الانتشار بين الناس، وتُعرف بأسماء مختلفة كـ”القرعة” في مناطق أخرى من بلاد المغرب، أو “جمعية الموظفين” أو “القرض التعاوني” أو الدائرة في بلدان أخرى أو غيرها من الأسماء حسب ما تعارف عليه الناس. وقد تناولها الفقه الإسلامي، لا سيما في المذهب الشافعي باسم مختلف ومفهوم مشابه إليها إلى حد كبير، وأجازوها (1).
◆ أما الفقهاء المعاصرون فقد اختلفوا في حكم “دارت” إلى قولين من حيث الجملة؛ فذهب أكثرهم، بحسب ما وقفت عليه، إلى القول بمشروعيتها، بينما اعتبر قلة منهم أنها غير جائزة، مستدلين بقاعدة “كل قرض جر نفعاً فهو ربا” وكذلك بالنهي الشرعي عن مسألة “أسلفني وأسلفك“، ومخالفة قصد الشارع من تشريع القرض.
◆ ونظراً للرأي القائل بمشروعية “دارت” يتفق مع الأصل الشرعي القاضي بإباحة المعاملات المالية ما لم يرد دليل يحرمها أو ينقلها عن معهود الأصل، فسأركز في مناقشتي على الرأي القائل بمنعها، إذ أراه مخالفاً للأصل، ومجانبا للصواب في نظري، وحاملا للناس على العسر بدلا من اليسر الذي هو ديدن الشريعة وروحها، وبيان ذلك:
■ من أهم أدلة المانعين:
1- قاعدة “كل قرض جر نفعا فهو ربا” (2)
استدل المانعون على تحريم “دارت” بقاعدة “كل قرض جر نفعا فهو ربا“، ووجه استدلالهم أن القروض التي تحقق منفعة دنيوية إلى المقرض، سواء كانت مادية أو معنوية، تُعدّ ربا في الشرع. والربا ، كما هو معلوم، من المحرمات القطعية في الإسلام. وبما أن “دارت” هي شكل من أشكال القرض، ويحصل فيها المقرض على منفعة، فإنه بمقتضى ظاهر القاعدة تكون “دارت” معاملة ربوية محرمة، ولا يجوز للمسلم أن ينخرط فيها.
ووجه الخطأ في هذا الاستدلال -في نظري- أن الاعتماد على القاعدة الفقهية في تحريم “دارت” يتسم بالضعف من ثلاثة جهات:
• من جهة أن الأحكام التي تفيدها القواعد الفقهية غالبًا ما تكون أغلبية وليست كلية، ولهذا قال العلماء: “ما من قاعدة إلا وفيها استثناءات“، وقد تكون “دارت” إحدى الحالات التي تُستثنى من عموم هذه القاعدة. وبالتالي، لا يمكن إلحاقها بحكم القروض التي تجر منفعة بشكل يطمئن له.
• ومن جهة ثانية أن الاستدلال بالقواعد الفقهية فيه خلاف بين أهل العلم، ويضعف الاستدلال بها أكثر في محل النزاع.
• ومن جهة ثالثة أن هناك صورة من صور القروض جرّت منفعة، أجازها بعض الصحابة ومنعها غيرهم كالسُّــفْــتَــجَـة(3)، وهي قرض يشترط فيه أن يسدده المقترض في بلد غير البلد الذي استلمه فيه، لينتفع بذلك المقرض والمقترض معا.
▪︎ مثال توضيحي للسفتجة:
لو أن شخصا مغربيا ذهب إلى بلد أجنبي كفرنسا مثلا، واحتاج إلى نقود فاقترض من قريب له مقيم في فرنسا، واشترطا على أن يكون سداد الدين في المغرب، فالمقترض سينتفع بذلك لأن النقود عنده في المغرب ولن يتكلف مصاريف إرسالها إلى فرنسا بعد عودته إلى بلده. والمقرض -وهو محل الشاهد- سينتفع بأمن الطريق أو التملص من مكوس تفرضها فرنسا على التحويلات المالية عند ذهابه إلى المغرب.
◆ والمقصود أن قاعدة “كل قرض جر نفعا فهو ربا” ليس على إطلاقها، بل تحتمل صورا استثنيت من عمومها أجازها بعض الصحابة (4) والمحققين من أهل العلم(5)، لعلة مؤثرة في الحكم أخرجتها عن معنى الربا، وهي المنفعة التي استفادها المقرض استفادها كذلك المقترض على حد سواء أو أكثر، وليس فيها ضرر على المقترض من أي وجه، بل فيها مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منهما، يقول ابن قدامة: “والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها، بل بمشروعيتها“(6). وكأن المنفعتين لما تقابلتا تساقطتا، ومثل هذه الصور ليس بمنصوص على تحريمها، ولا في معنى المنصوص، فوجب إبقاؤها على الإباحة.
وكذلك “دارت” فالمقترض والمقرض ينتفعان بها على حد سواء وهما في حاجة إليها ، وليس فيها مضرة لواحد منهما، والشرع لم ينص على تحريمها ولا هي في معنى المنصوص، ولم يأت بتحريم مثل هذه المنافع المشتركة المتبادلة. يقول ابن القيم: “والمنفعة التي تجرّ إلى الربا في القرض هي التي تخص المقرض….، بخلاف هذه المسائل؛ فإن المنفعة مشتركة بينهما، وهما متعاونان عليها، فهي من جنس التعاون والمشاركة“(7). وعلى هذا تكون “درات” مندوب إليها وليست فقط مباحة، وهي كذلك، وهو اختيار الشيخ ابن العثيمين رحمه الله؛ لأن معنى التعاون والمشاركة فيها أقوى وأظهر.
2- النهي عن “أَسْلِفْنِي وَأُسْلِفَك”
يقصد بعبارة “أَسْلِفْنِي وَأُسْلِفَك” القرض المتبادل المشروط، وصورته أن يقرض شخص غيـرَه مالا بشرط أن يقرضه هو لاحقا، أو أن يقترض شخص من غيره مالا بشرط أن يقرضه هو في المستقبل، وقد اشتهرت تلك العبارة عند المالكية، إلا أن مضمونها موجود في المذاهب الفقهية الأخرى، وقد اتفقت كلمتهم على تحريم هذا النوع من القرض لأنه بالشرط المذكور يندرج ضمن ربا النفع المحرم.
◆ أما وجه ارتباط معاملة “دارت” بمسألة “أَسْلِفْنِي وَأُسْلِفَك” عند القائلين بالمنع فيكمن في أن كل عضو من مجموعة “دارت” يقرض الأعضاء الآخرين بشرط أن يقرضوه لاحقا، فيكون بذلك قرضا مشروطا في قرض. ولكن بالنظر في كيفية تنفيذ عملية “دارت”، يتبين أنها لا تندرج تحت مسألة “أَسْلِفْنِي وَأُسْلِفَك“. وبيان ذلك:
أن العضو الأول الذي يحصل على المبالغ المدفوعة من جميع الأعضاء يعدّ مقترضا من باقي أعضاء المجموعة، ثم يقوم بسداد ما اقترضه في الأشهر اللاحقة، فهو يؤدي ما اقترضه ولا يقرضهم شيئا.
أما العضو الذي يأخذ المبلغ في المرة الثانية، فهو يعدّ مقترضا ممن يأخذ المبلغ بعده ومستوفيا لقرضه من العضو الذي سبقه. وهكذا الأمر بالنسبة للعضو الثالث حتى العضو قبل الأخير.
أما العضو الأخير، فهو لا يقترض من أحد، بل يستوفي ما أقرضه لبقية الأعضاء طوال مدة العملية. وعليه، فإن معاملة “دارت” لا تدخل في النهي عن “أَسْلِفْنِي وَأُسْلِفَك“؛ لأن من أسلفته ليس هو من يُسلفك.
◆ وقد يقول قائل إن المشتركين في “دارت” يقرضون ويقترضون وفق شرط يمكن تلخيصه بالعبارة الآتية:
“أسلفني ويُسلفك غيري” أو “أسلفك ويُسلفني غيرك“. ولا شك أن هذا يُعبّر عن حقيقة صورتها، إلا أنه لا دليل على تحريم هذه الصورة. إذ إن الإجماع وقع على تحريم صورة “أَسْلِفْنِي وَأُسْلِفَك” تحديدا، فتبقى معاملة “دارت” على أصل الإباحة ولا يشمله النهي.
3- معاملة “دارت” تخالف قصد الشارع من تشريع القرض
◆ شرع القرض في الإسلام ليكون من أعمال البر التي يُبتغى بها وجه الله سبحانه وتعالى، فالقصد من تشريعه هو الإحسان والمساعدة. غير أن معاملة “دارت” أخرجت القرض عن هذا المقصد النبيل، إذ إن نية المنخرطين فيه ليست تحصيل الثواب، وإنما تحقيق منفعة دنيوية، وهذا لا يجوز.
وردا على هذا الأمر يمكن القول:
◆ صحيح أن الأصل في القرض أن يكون لمرضاة الله، فمن قام به بهذه النية أثيب عليه، ومن فعله بغير هذه النية، كمن أقرض حياء من المقترض أو توددا له، فإن القرض في هذه الحالة جائز، لكن صاحبه يُحرم من ثوابه. وينطبق هذا الأمر أيضا على إنظار المدين المعسر، حيث إن إنظار المعسر يعدّ من أعمال البر التي ندب إليها القرآن الكريم. فمن أنظر مدينا معسرا ابتغاء مرضاة الله أثيب على ذلك، ومن أنظره اضطرارا، كأن يجد أن مطالبة المعسر بسداد الدين ستُكلفه عناء كبيرا، فلم يطالب به لهذا السبب، فإنه حينئذ يُحرم من ثواب الإنظار، لكن لا يمكن القول بتحريم ما قام به.
◆ وعليه، ليس كل عمل بر يُفقد ثوابه لعدم ابتغاء مرضاة الله يصبح فعله حراما، بل غاية ما يمكن أن يقال عنه هو الكراهة، إلا إذا نص الشرع على تحريمه بعينه. وفي مسألة “دارت“، يظهر بوضوح عنصر التعاون بين المنخرطين لتحصيل منفعة جماعية دون الإضرار بأي فرد من المجموعة. وهذا العمل يوافق مقاصد الشريعة من وجه آخر، ولا يوجد نص يمنع منه بعينه. فلو قام به المنخرطون في “دارت” ابتغاء مرضاة الله لرجونا لهم الثواب، وإن قاموا به فقط لتحصيل منفعة جماعية عاجلة، فإنهم يُحرمون الثواب، لكن لا شيء عليهم من جهة التحريم.
♦ الخلاصة:
يتبين من خلال التحليل أن “دارت” معاملة مالية مباحة، حيث تحقق منفعة متبادلة للمقترض والمقرص معا دون إضرار بأي طرف منهما، وتوافق مقاصد الشريعة في التعاون والتيسير. وبالتالي، لا يمنع القيام بها، بل تعدّ من صور التعاون المستحبة إذا اقترنت بنية حسنة. وإلى القول بجوازها ذهب معظم المجامع الفقهية المعاصرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حاشية أحمد سلامة القليوبي (ت: 1069هـ): “فَرْعٌ: الْجُمُعَةُ الْمَشْهُورَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ بِأَنْ تَأْخُذَ امْرَأَةٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُنَّ قَدْرًا مُعَيَّنًا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ أَوْ شَهْرٍ وَتَدْفَعُهُ لِوَاحِدَةٍ بَعْدَ وَاحِدَةٍ، إلَى آخِرِهِنَّ جَائِزَةٌ، كَمَا قَالَهُ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ”. قلت: المقصود بالولي العراقي هو الحافظ المحدّث، الأصوليّ الفقيه أحمد وليّ الدين، أبو زُرعة، المعروف بابن العراقيِّ (ت: 826).
(2) يروى حديث مرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام: “كل قرض جر نفعا فهو ربا”، وقد اتفقت كلمة المحدثين أن هذا الحديث ضعيف. وعليه لا يصح الاحتجاج به لمنع “دارت”.
(3) السفتجة: تنطق بضم السين وإسكان الفاء وفتح التاء على الأشهر (السُّــفْــتَــجة) هي كلمة فارسية معربة أصلها “سفتة” والجمع سفاتج. ولقد اتفق العلماء على جواز السُّــفْــتَــجة أي سداد الدين في غير بلد القرض من غير اشتراط، ورضي المقرض والمقترض بذلك. كما اتفقوا على منعها إذا كانت بشرط يفضي إلى منفعة خالصة للمقرض وحده، أما إذا كانت بشرط كما في المثال السابق وينتفع بها المقترض والمقرض معا فقد وقع فيها خلاف بين أهل العلم على ثلاثة أقوال: المنع ، الجواز ، الجواز بشرط أذا لم يكن للمال المقترَض مؤنة ومصاريف لحمله وهو الراجح.
(4) مروي عن علي، وابن عباس، وابن الزبير، والحسن بن علي رضي الله عنهم أجمعين. ومن التابعين: ابن سيرين، وعبد الرحمن بن الأسود، وأيوب، وسفيان الثوري، وإسحاق. انظر تهذيب السنن (2/ 194).
(5) القاضي يعلى، وابن قدامة، وابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني، والطاهر بن عاشور، والشيخ مصطفى الزرقاء. وذكر ابن البر أن مالكا كره العمل بالسفاتج بالدنانير والدراهم ولم يحرمها، وفي رواية عن أحمد جوازها لكونها مصلحة لهما جميعا. انظر الموسوعة الفقهية الكويتية.
(6) المغني لابن قدامة (4/ 241).
(7) تهذيب سنن أبي داود وإيضاح مشكلاته (2/ 194).