“الخطبة الموحدة” بين استبداد السلطة وتغييب رسالة المنبر
هوية بريس – د.رشيد بن كيران
♦ في لقاء بالمجلس العلمي الأعلى، أدلى وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد توفيق بتصريحات تعكس فكرا استبداديا إقصائيا، وتفتقر إلى فقه الواقع ومتطلبات الواجب، وتتسم بخبث ماكر، يتضح ذلك فيما يلي:
أولا: الفكر الاستبدادي والإقصائي
◆ صرح الوزير قائلاً: “هناك تتبع أكيد ودقيق في تتبع من يأخذ بالخطبة ومن لا يأخذ بها. وأن 95% من الخطباء يأخذون بالخطبة (أي الخطبة الموحدة أو خطبة تسديد التبليغ) عن تلقائية وطواعية، وأن 5% (حوالي 1300 خطيب) منهم لا يأخذون بها “.اه
أي أن هؤلاء الخطباء يقومون بإعداد خطبتهم بأنفسهم، يعتمدون بعد الله عز وجل على أهليتهم العلمية، وكفاءتهم في اختيار الموضوعات المناسبة لواقع مجتمعاتهم، وعلى قدراتهم في انتقاء اللغة التي تخدم رسالتهم ويفهمها المتلقي، وعلى احترامهم لمن يخاطبون.
ورغم هذا الموقف المسؤول النبيل، الذي لا يمكن لأي عاقل فضلا عن عالم إلا أن يراه بعين الرضا والإعجاب والتقدير. لكن للأسف كان للوزير رأي آخر يخالف فيه العقلاء، إذ وصف تصرف هؤلاء الخطباء بالمرض، فهم خطباء مرضى في نظره.
وحسب تشخيص الوزير أن نوع المرض الذي أصاب 5% من الخطباء هو اعتقادهم الخاطئ أن خطبهم التي هيؤوها بأنفسهم يوجد فيها ما يستحق أن يسمعه المتلقون مرضاة لله، قال: “ماذا يجده (الخطيب) حريا أن يسمعه المؤمنون ويكون فيه مرضاة الله من غير ما يرد في هذه الخطب !!؟”
بهذا التصريح، أبدى الوزير استعلاء فكريا واضحا، مستبعدا احتمال أن تكون في خطب هؤلاء الخطباء منفعة ومرضاة لله. وذهب أبعد من ذلك بحصر ما ينفع الناس ويرضي الله في خطبه الموحدة، وكأن العلم والحكمة توقفت عنده وحده، ورضا الله صار من الممتلكات في وزارته يوزعه كيف شاء!!؟
◆ المثير للاستغراب أن الوزير ليس بعالم في الشريعة، ولم يُعرف عنه ممارسة الخطابة أو التأليف في هذا المجال، ومع ذلك لم يتردد في إصدار أحكام قاسية على نخبة من الخطباء المجتهدين. وهذا الموقف الفرعوني يذكّرنا بما خلده القرآن الكريم في قوله تعالى: “قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ”؛ حيث حصر فرعون الهداية والرشاد في رأيه الشخصي، مثلما حصر الوزير منفعة الناس ورضا الله في خطبه الموحدة فقط؛ “ما أريكم إلا ما أرى، وما يرضي الله إلا ما رضيتُ به”. نعوذ بالله من مرض الكبْر والعُجب.
هذا التصريح، بما يحمله من استبداد وإقصاء وجرأة فرعونية، لا يؤدي إلا إلى تعميق الفجوة بين وزارة الأوقاف وعموم المسلمين في المغرب. ولقد سبق لي أن تناولت هذا الموضوع في مقال بعنوان: “لماذا الناس يكرهون وزارة الأوقاف؟“، وهذا التصريح الأخير يضيف سببا آخر لتلك الكراهية:
وزير يتبنى خطابا استبداديا لا يحترم الخطباء ولا الشعب المغربي المسلم. فالمغاربة جبلوا على حب من يحترمهم ويحترم من يحترمونه، ويقدرون من يُقدّر علماءهم وخطباءهم، وليس من يهاجمهم أو يحتقر اجتهادهم ويصفها بالمرض.
ثانيا: فقه الواقع ومتطلبات الواجب
◆ إن خطبة الجمعة تُعدّ من أبرز المجالات التي اتسمت بالتنوع والثراء في التراث الإسلامي على مر العصور منذ الصدر الأول، وهو تنوع أذن به الشرع ورغّب فيه لما له من أثر إيجابي في مراعاة حاجيات الناس من الدين والتدين، واعتبار تنوع ألسنتهم ولهجاتهم ومستواهم الثقافي، وتحقيق القرب من مشاكل حياتهم المتنوعة، فهو تنوع مقصود من الشارع اللطيف الخبير.
ومع ذلك، يرى الوزير أن أي مختار لغير خطبه الموحدة “مريض”. وبه مرض “يجب أن يُعالج من جملة أمراض عديدة!!”.
• فهل يوجد إقصاء أكبر من وصف اجتهاد علمي شريف مرغوب فيه شرعا بأنه “مرض يجب أن يعالج”!!؟
• وهل هناك أيضا استبداد بالرأي أشد من تجاهل تاريخ الأمة وما جرى به العمل منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين في هذا المجال إلى يومنا هذا!؟
• أوليس تنميط خطب الجمعة وفق خطة الوزير مخالف للمذهب المالكي الذي يعد من ثوابت المغرب!!؟
◆ إن أبعاد تصريح الوزير هو المرض الحقيقي بعينه، إذ يتجاهل الفوارق بين الأماكن و الأشخاص والأعراف واللسان ويجعل الخطيب مجرد قارئ لا غير. وكفى بهذه الأمور شناعة لمخالفتها للحكمة التي أمر بها القرآن الكريم وأكدتها السنة النبوية الشريفة وجرى وفقها العمل المستمر.
هذا، وإن هذه المخالفة يترتب عنها مفاسد وأمراض عديدة، منها:
• وصف الخطباء غير الملتزمين الخطبة الموحدة بالمرضى إرهاب فكري وتهديد نفسي، يعمق الفجوة بين الوزارة والخطباء، مما قد يدفع بعضهم إلى الإحباط أو التوقف عن الخطابة.
• التزام الخطبة الموحدة يؤدي إلى خطاب ديني جامد وغير متفاعل مع قضايا الناس. وهذا يضعف دور خطبة الجمعة كوسيلة حقيقية للتوجيه والإرشاد والسعي نحو الحياة الطيبة بمنهج القرآن وليس بمنهج الوزير.
• تقدير المصلين للخطباء الذين يعبرون عن واقعهم ويعالجون قضاياهم المباشرة. بينما الخطب الموحدة تؤدي إلى شعور المصلين بالاغتراب عن خطبة الجمعة.
• تنميط الخطب يحرم العلماء والخطباء من فرصة الإبداع والتجديد، مما يسهم في جمود الفكر الديني وضعفه وفسح المجال لتقوية الخطاب اللاديني غير الأخلاقي.
ثالثًا: خبث ماكر
◆ برز من خلال تصريح الوزير أن نية الغدر والخداع كانت مبيتة، وأن مشروع “خطة تسديد التبليغ” كان ستارا لتحقيق أهداف خفية أخرى. عندما أُعلن عن المشروع واطلعتُ على دليله المرجعي وبعض الكتب المفسرة له والأوراق المؤطرة، بدا واضحا -كما اتضح لكل من تابع هذا الشأن- أن الخطة تستهدف تنزيلا تجريبيا في عدد محدود من المساجد.
الهدف المعلن كان تقويم هذه التجربة ووضع نموذج يُستلهم منه المشروع العام لتطبيقه لاحقا على باقي مساجد المملكة. وبدا واضحا كذلك أن الخطبة الموحدة في تلك المساجد لم تكن غاية بذاتها، ولا كان الهدف تعميمها على جميع المساجد.
◆ لكن المفاجأة جاءت سريعا؛ فبعد مرور الأسبوع الأول من انطلاق المشروع، فوجئ الجميع بمطالبة الوزارة بتعميم خطبة “تسديد التبليغ” على كل المساجد. لم يتأخر رد الفعل الشعبي؛ حيث أعرب المغاربة عن استيائهم، وصدحت أصوات بعض الخطباء من فوق المنابر برفض هذا التعميم الذي اعتبروه مسيئا في حقهم غاية الاساءة.
ورداً على ذلك، خرج المجلس العلمي الأعلى ببيان يطمئن الرأي العام، مشيرا إلى أن “التعميم مؤقت وليس دائمًا، ويهدف فقط إلى التحسيس بالمشروع وبناء تفاعل إيجابي معه”. وأكد المجلس أن “الخطباء سيستمرون في إعداد خطبهم بأنفسهم، بناء على كفاءتهم، وهم محل ثقة”. بل أضاف: “سيتم اقتراح خطبة الجمعة الموالية كل أربعاء على الساعة الثانية بعد الزوال لمن أراد اعتمادها” يعني اختيارا لا إلزاما.
◆ هذا البيان الصادر عن المجلس العلمي الأعلى -والذي يُفترض أنه صاحب المشروع كما يزعم الوزير!!؟- أكد أن الخطبة الموحدة اختيارية وليست إجبارية، وأنها مؤقتة وليست دائمة.
لكن إذا كان هذا الكلام صحيحا وصدقا، فما تفسير تصريح الوزير الذي وصف الخطباء الذين اختاروا ألا يعتمدوا على الخطبة الموحدة بأنهم “مرضى”!؟؟ أو اعتبر أن موقفهم يعبر عن “مرض يجب أن يعالج”!؟ وما علاجه يا ترى !؟ هل هو ديدن حليمة في عادتها اللئيمة؟.
◆ التفسير الأقرب إلى المنطق هو أن الوزير لم يكن يخطط “لتسديد التبليغ” فقط، بل كان يهدف إلى فرض خطب موحدة على جميع الخطباء، بما يعني تكميم الأفواه وتعطيل تبليغ الدين. واختار لتحقيق ذلك أسلوب التدرج والالتفاف والمراوغة لتمرير هذا المخطط دون إثارة صخب كبير في البداية.
◆ لو كان الوزير صادقا مع مشروعه وأهدافه المعلنة، لوجه “تتبعه الدقيق” لدراسة الأثر الفعلي لهذا المشروع، ولأحصى النتائج الملموسة إن وجدت، مثل عدد المهتدين الجدد أو مدى تأثير الخطبة الموحدة في تحسين التبليغ.
لكنه للأسف، ركز اهتمامه الدنيء على مراقبة الخطباء وتعداد من التزم ومن لم يلتزم، في محاولة لصد الانتقادات الموجهة إلى مشروعه وخطبه الموحدة الضعيفة. هذا السلوك يعكس حرصه على السيطرة والتحكم، وليس على خدمة الدين.
◆ وعليه، أدعو الخطباء الشرفاء الذين تعرضوا لظلم الوزير ووصفهم بالمرضى على وزن الحمقى، إلى توجيه رسائل استنكار إلى المجلس العلمي الأعلى أو إلى رئيسه، أمير المؤمنين، للمطالبة بإنصافهم وحمايتهم من هذا الطغيان والاستعلاء الفرعوني. فالخطبة ليست مجرد كلمات تُلقى، بل رسالة أمانة أمام الله عز وجل قبل كل شيء، ومسؤولية تحتاج إلى الخطيب المؤهل الذي يسعى إلى تقديم ما ينفع الناس ويهديهم وليس مجرد مُلقّن قارئ لما لُقّن.
♦ وآخرا وليس أخيرا: خطبة الجمعة أمانة عظيمة وشعيرة من أعظم شعائر الإسلام، ويجب أن تبقى كما أرادها رب العزة والجلال؛ وسيلة لإصلاح المجتمع وهدايته وذكر الله، لا أداة للهيمنة والسيطرة كما أرادها ربّ وزارة الأوقاف.