سلسلة مقالات نقدية حول المنطق المقالة العاشرة: موقف السيوطي من المنطق (ملخص فتوى السيوطي حول المنطق)

05 ديسمبر 2024 08:52

هوية بريس – د.محمد أبو الفتح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد ؛ فإن السيوطي رحمه الله بعد أن كتب كتابه “صون المنطق” سئل عن شَخْصٍ يَدَّعِي فِقْهًا، يَقُولُ: “إِنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ عِلْمِ ‌الْمَنْطِقِ، وَإِنَّ عِلْمَ ‌الْمَنْطِقِ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَإِنَّ لِمُتَعَلِّمِهِ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَلَا يَصِحُّ تَوْحِيدُ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ، وَمَنْ أَفْتَى وَهُوَ لَا يَعْلَمُهُ فَمَا يُفْتِي بِهِ بَاطِلٌ…”.

-فأجاب بما يلي: “فَنُّ ‌الْمَنْطِقِ فَنٌّ خَبِيثٌ مَذْمُومٌ، يَحْرُمُ الِاشْتِغَالُ بِهِ، مَبْنِيٌّ بَعْضُ مَا فِيهِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْهَيُولِي الَّذِي هُوَ كُفْرٌ، يَجُرُّ إِلَى الْفَلْسَفَةِ وَالزَّنْدَقَةِ، وَلَيْسَ لَهُ ثَمَرَةٌ دِينِيَّةٌ أَصْلًا، بَلْ وَلَا دُنْيَوِيَّةٌ – نَصَّ عَلَى مَجْمُوعِ مَا ذَكَرْتُهُ أَئِمَّةُ الدِّينِ، وَعُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ…”. ثم ساق أسماء العلماء القائلين بتحريم الاشتغال بالمنطق على اختلاف مذاهبهم الفقهية.

-قلت: علل السيوطي تحريم الاشتغال بالمنطق بكونه وسيلة إلى الكفر والزندقة، مع انعدام الفائدة منه. وهذا يعني أنه يراه مفسدة خالصة لا مصلحة فيها، والشريعة تنهى عما فيه مفسدة خالصة أو راجحة.

-ثم أجاب عن دعوى الْـمُدَّعِي أنَّ توحيد الله متوقف على معرفة المنطق، فقال: “…وَقَوْلُهُ: إِنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَعْرِفَتِهِ مِنْ أَكْذَبِ الْكَذِبِ، وَأَبْلَغِ الِافْتِرَاءِ، وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ تَكْفِيرُ غَالِبِ الْمُسْلِمِينَ الْمَقْطُوعِ بِإِسْلَامِهِمْ، وَلَوْ أَنَّ الْمَنْطِقَ فِي نَفْسِهِ حَقٌّ لَا ضَرَرَ فِيهِ لَمْ يَنْفَعْ فِي التَّوْحِيدِ أَصْلًا، وَلَا يَظُنُّ أَنَّهُ يَنْفَعُ فِيهِ إِلَّا مَنْ هُوَ جَاهِلٌ بِالْمَنْطِقِ لَا يَعْرِفُهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْطِقَ إِنَّمَا بَرَاهِينُهُ عَلَى الْكُلِّيَّاتِ، وَالْكُلِّيَّاتُ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْخَارِجِ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى جُزْئِيٍّ أَصْلًا، هَكَذَا قَرَّرَهُ الْمُحَقِّقُونَ الْعَارِفُونَ بِالْمَنْطِقِ، فَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْمَنْطِقَ، وَلَا يُحْسِنُهُ، فَيَلْزَمُ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ أَنَّهُ مُشْرِكٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ التَّوْحِيدَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَعْرِفَتِهِ، وَهُوَ لَمْ يَعْرِفْهُ بَعْدُ. فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِذَلِكَ أَنَّ إِيمَانَ الْمُقَلِّدِ لَا يَصِحُّ([1])، وَإِنَّمَا يَصِحُّ إِيمَانُ الْمُسْتَدِلِّ؛ قُلْنَا: لَمْ يُرِيدُوا بِالْمُسْتَدِلِّ عَلَى قَوَاعِدِ الْمَنْطِقِ، بَلْ أَرَادُوا مُطْلَقَ الِاسْتِدْلَالِ، الَّذِي هُوَ فِي طَبْعِ كُلِّ أَحَدٍ حَتَّى فِي طَبْعِ الْعَجَائِزِ، وَالْأَعْرَابِ، وَالصِّبْيَانِ، كَالِاسْتِدْلَالِ بِالنُّجُومِ عَلَى أَنَّ لَهَا خَالِقًا، وَبِالسَّمَاءِ، وَالْأَنْهَارِ، وَالثِّمَارِ، وَغَيْرِهَا، وَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى مَنْطِقٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَالْعَوَامُّ وَالْأَجْلَافُ كُلُّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِهَذَا الطَّرِيقِ”.

-قلت: خلاصته أنه يلزم من دعوى توقف التوحيد على المنطق تكفير غالب المسلمين، وعلى رأسهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ممن لم يعرفوا المنطق ولم يدركوا زمان ترجمته إلى العربية.

-ثم أجاب السيوطي عن دعوى المدعي أن لمتعلم المنطق بكل حرف منه عشر حسنات، فقال: ” … َقَوْلُهُ: إِنَّ لِلْمُتَكَلِّمِ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ هَذَا شَيْءٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا لِلْقُرْآنِ، الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ جل جلاله، فَإِنْ أَرَادَ هَذَا الْجَاهِلُ أَنْ يُلْحِقَ الْمَنْطِقَ – الَّذِي هُوَ مِنْ وَضْعِ الْكُفَّارِ – بِكَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا، وَخَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا، وَالْعَجَبُ مِنْ حُكْمِهِ عَلَى اللَّهِ بِالْبَاطِلِ، وَالْإِخْبَارُ بِمَقَادِيرِ الثَّوَابِ لَا يُتَلَقَّى إِلَّا مِنْ صَاحِبِ النُّبُوَّةِ عليه الصلاة والسلام”.

-قلت: هذا الكلام دليل على أن المفتونين بالمنطق بلغوا درجة من العشق والغرام بالمنطق حجبت عقولهم، وجعلتهم يتكلمون بلا عقل ولا نقل. فيا ليت شعري ! أَيْنَ ما يَدَّعون من كون المنطق يسدد الفكر، ويعصمه من الزلل؟!

-ثم رد السيوطي على الدعوى المدعي أن من الفتوى لا تصح ممن لا يعرف المنطق بقوله: “… وَقَوْلُهُ: إِنَّ مَنْ لَا يَعْلَمُ الْمَنْطِقَ فَفَتْوَاهُ لَا تَصِحُّ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ [وَأَتْبَاعَ التَّابِعِينَ] لَمْ تَصِحَّ فَتْوَاهُمْ، فَإِنَّ الْمَنْطِقَ إِنَّمَا دَخَلَ بِلَادَ الْإِسْلَامِ فِي حُدُودِ سَنَةِ ثَمَانِينَ وَمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَمَضَى فِي الْإِسْلَامِ هَذِهِ الْمُدَّةُ، وَلَا وُجُودَ لِلْمَنْطِقِ فِيهِ، وَقَدْ كَانَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ غَالِبُ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمَرْجُوعِ إِلَيْهِمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ، أَفَيَظُنُّ عَاقِلٌ مِثْلَ هَذَا الظَّنِّ؟ وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه نَفْسُهُ عَلَى ذَمِّ الِاشْتِغَالِ بِالْمَنْطِقِ، أَفَيَقُولُ هَذَا الْجَاهِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي مِثْلِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه؟ وَمَنْ سَمَّيْنَاهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ دَوَّنُوا الْفِقْهَ، وَأَضْحَوْا سُبُلَ الْفَتَاوَى وَهُمْ عِصْمَةُ الدِّينِ….”.

-قلت: حاصل كلامه أنه يلزم من دعوى المدعي أن الفتوى لا تصح ممن لا يعرف المنطق، إبطال فتاوى الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين الذين عافاهم الله من مُعَاقَرَة خمر المنطق.

-خاتمة: كلام السيوطي في هذه الفتوى دليل على عدم تفريقه بين منطق مشوب بالفلسفة وغير مشوب، وقد وقفت له على كلام صريح يَرُدُّ فيه على المفرقين بين النوعين في كتابه “القول المشرق” 176)، قال رحمه الله: ” … فَإِنْ قُلْتَ: لَعَلَّ كَلَامَ مَنْ حَطَّ عَلَيْهِ [أي: المنطق] مَحْمُولٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَنْطِقِ الْفَلْسَفِيِّ الْـمُجَرَّدِ وَالْـمَنْطِقِ الْـمَخْلُوطِ بِالْفَلْسَفَةِ لَا الْـمُجَرَّدِ عَنْهَا، كَالَّذِي فِي زَمَانِنَا. قُلْتُ: لَا يَصِحُّ هَذَا الْحَمْلُ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ رَدُّوا عَلَى الْغَزَالِي حَيْثُ قَالَ: “وَهَذِهِ مُقَدِّمَةُ الْعُلُومِ…” إِلَى آخِرِه، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى الْقَوَاعِدِ الْمَنْطِقِيَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا، وَلَيْسَ فِيهَا فَلْسَفَة، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْـمُرَادَ بِحُكْمِهِمْ بِالتَّحْرِيمِ غَيْرُ مَا فَيهِ الْفَلْسَفَةُ أَيْضاً. وَأَيْضًا فَقَوْلُ السُّبْكِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِهِ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَنْطِقُ زَمَانِنَا لَا مَا فِيهِ الْفَلْسَفَة…وَكَذَلِكَ كَلَامُ ابْنِ مُقْرِي فِي جَوَابِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْـمُرَادَ مَنْطِقُ زَمَانِنَا فَإِنَّهُ مَاتَ عَامَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَمَانِمائَة “.

-قلت: يعني: لو كان السبكي يقصد المنطق المشوب بالفلسفة لحرمه بإطلاق من غير شرط. .ويعني بجواب ابن المقري ما نقل عنه في القول المشرق (ص151) حين سُئِلَ عن المنطق فقال:

وَعَنْ عَكْسِ السَّوَالِبِ لَا تَسَلْنِيفَـــــــــــــــــــــذَاك مُقَدَّمُ الْعِلْمِ الْحَرَامِ

ــــــــــــــــــــ

([1]) هذا مبحث يحتاج إلى إيضاح وفق معتقد أهل السنة، وليس هذا محل بسطه.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M