صناعة “اللغو” من التوصيف إلى التثقيف
هوية بريس – د.طارق الحمودي
يثير انتباهك في كتاب الله تعالى “اصطلاحاته” القوية والمحكمة، ومن ذلك مصطلح “اللغو“، وقوة اللفظ في صيغته، وفي أصله ومضمونه، ويزيده قوة ودلالة سياقاته القرآنية، فبمراعاتها تنكشف مساحات دلالية أوسع، ويزيد مستوى الانغماس في المعنى، والبدء بدلالته “الأولى“، فاللغو “ما لا يعتد به“، ويطلق على “الباطل“، وكلمة لاغية أي “قبيحة وفاحشة“، وعلى هذا لغة القرآن واصطلاحه.
وأما السياقات فعجيبة لطيفة، فإن الله تعالى جعل “الإعراض عن اللغو” من صفات المؤمنين المفلحين فقال: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) [المؤمنون:3]، والإعراض أشد الترك، وعلى هذا، “فالإعراض عن اللغو” من الإيمان، وهو دال على أن الترك سنة، والترك تقربا إلى الله بما يرضيه إيمان، فيكون الإقبال على اللغو خصلة من خصال الكفر والعصيان، ومن النظائر قول الله تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) [القصص:55]، وفيه مسألتان:
الأولى: أن اللغو من أعمال الجاهلين، والثانية: أن تركه يكون في مقابل الإقبال على “أعمال المؤمنين“، أي أعمال الإيمان، ومن النظائر القرآنية اللطيفة قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) [الفرقان:72]، وسر اللطافة جعل الله تعالى “المرور باللغو مرور الكرام” من صفات عباد الرحمن، فإن الله بدأ هذا بقوله:( وعباد الرحمن)، وهذا آكد في الكشف عن طبيعة اللغو وخطورته وآثاره ومفاسده، ومرور الكرام في مقابل إقبال اللئام، ويكفي أن قرن الله بين اللغو وشهادة الزور، قال الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير: (الزور: الباطل من قول أو فعل وقد غلب على الكذب.
وقد تقدم في أول السورة فيجوز أن يكون معنى الآية: أنهم لا يحضرون محاضر الباطل التي كان يحضرها المشركون وهي مجالس اللهو والغناء والغيبة ونحوها، وكذلك أعياد المشركين وألعابهم، فيكون الزور مفعولا به ل يشهدون. وهذا ثناء على المؤمنين بمقاطعة المشركين وتجنبهم)، فانتبه إلى متعلقات الزور، أي الباطل، القول والفعل، وانتبه لشرحه له بالباطل، وقد سبق الإشارة إلى أن من معاني “اللغو”…”الباطل”، فيكون اللغو في القول والفعل، بل وفي الفكر أيضا.
يعرف الطاهر ابن عاشور اللغو بـ(الكلام العبث والسفه الذي لا خير فيه)، ولاحظ كلماته المستعملة في شرحه: (العبث)، و(السفه)، أما السفه فقلة العقل والجهل، وقد مضى التنبيه على شيء من ذلك، وأما العبث فيأتي إن شاء الله، وثم كلمتان أخريان سيستعملها للدلالة على معنى اللغو بعدُ، فإنه قال: (ومعنى: مروا كراما، أنهم يمرون وهم في حال كرامة، أي غير متلبسين بالمشاركة في اللغو فيه، فإن السفهاء إذا مروا بأصحاب اللغو أنسوا بهم، ووقفوا عليهم، وشاركوهم في لغوهم فإذا فعلوا ذلك كانوا في غير حال كرامة، والكرامة: النزاهة ومحاسن الخلال، وضدها اللؤم والسفالة، وأصل الكرامة أنها نفاسة الشيء في نوعه قال تعالى: (أنبتنا فيها من كل زوج كريم) [الشعراء: 7])، فجعل اللغو مرادفا لـ”اللؤم” و”السفالة”، وما تحصل من كل هذا ،أن “اللغو” “عبث” و”سفه” و”لؤم” و”سفالة” و”جهالة” و”زور” و”باطل” و”القبح” و”الفحش”، وسيأتي بمعنى “التفاهة”، فكأن اللغو جامع شتات الشر من كل جهة!
يتكلم الناس كثيرا عن “صناع المحتوى”، ويكون القصد الإعلامي بذلك الحديث عن “الصناع”، دون “المحتوى” الذي صار أغلبه اليوم “لغوا” من “المحتوى”، وصار معنى “اللغو” بلغة العصر “التفاهة” فيقال: “صناعة التفاهة”، و”ثقافة التفاهة”، وأفضِّل استعمال المصطلح القرآني، لقوة دلالته واتساعها وعمقها وكثرة تعلقاتها، فيحسن الحديث إذن عن ثقافة اللغو، وصناعة اللغو في ما يبث من محتوى صوتي ومرئي وهو أكثره، بله المقروء، وتعدى ذلك إلى صناعة لغو الفكر وساقطه، وصارت كثير من العلاقات الاجتماعية لغوا، وصار نظام غذاء كثير من الناس لغوا، فصارت حياة أغلب الناس لغوا لا فائدة منها، بل ضرهم ولم ينفعهم، فليس اللغو وصفا محايدا، بل تترب عليه قولا وعملا آثار سيئة جدة على العقل والمال والصحة والدين، فكلها تتضرر بالانغماس فيه، ولذلك كان من الواجب الإعراض عن اللغو، والمرور به مرور الكرام، ولكن أغلب الناس لا يعلمون.
لا يقف الأمر عند الإشادة بمقام “الإعراض عن اللغو”، بل يتعداه في القرآن الكريم إلى نسبة “صناعة اللغو” إلى من “يعادي القرآن” وخطابه ومقاصده، وهم أهل الكفر والزندقة، فهم أهل “اللغو في القرآن” في مقابل أهل “تدبر القرآن”، فإن الله تعالى قال: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت: 26]، فظهر بهذا أن “اللغو” أحد أدوات أعداء الله تعالى، يقصدون به التغلب على الإسلام وأهله، يريدون إشاعة “اللغو” في كل شيء، والقرآن يريد “قصدا هاديا” و”عقلا” و”علما” و”كرامة” و”جمالا” و”خيرا” و”عدلا” و”عزة”، ويتولى أمر هذا “اللغو” جهات تقصد إلى إبطاء “صحوة المسلمين”، و”إطالة سباتهم”، ولعل من أخبث أدواتهم في هذا الهواتف الذكية، التي تولج صاحبها إلى عوالم من “اللغو المرئي” على جهة الخصوص، يسلمون أصحابها إلى “صناع المحتوى التافه”، و”لصوص الفكر” و”قطاع الطرق إلى الله”، و”بائعي الأوهام”، و”مسوقي الكذب”، و”مشيعي الفواحش”، وكم لهم بهذا من قتيل، ضيعوا عليه ماله ووقته وعقله ودينه وصحته.
هي إذن معركة ضد “اللغو” في الدين والدنيا، أعلنها الإسلام ورفع رايتها، وكشف ساحتها وأسلحة الطرفين فيها، وإنما يحرص المؤمن على “الإعراض عن اللغو” و”المرور مرور الكرام” ليحصّل الفائدة بعد موته، حينما يجد في الجنة كل ما ينفعه ويلذ به، حتى الكلام يسمعه، فإن الله تعالى قال: فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، لَا تُسمع فِيهَا لَاغِيَةً [الغاشية:10-11].