موقف العلامة الأمين الشنقيطي من المنطق
سلسلة مقالات نقدية حول المنطق المقالة الحادي عشر: موقف العلامة الأمين الشنقيطي من المنطق
هوية بريس- د.محمد أبو الفتح
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد؛ فمن أشهر المؤلفين السلفيين في المنطق العلامة الأمين الشنقيطي رحمه الله في كتابه: “أدب البحث والمناظرة”، وقد أوضح في مطلعه أن سبب تأليفه هو الحاجة إلى وضع مذكرة لطلبة الجامعة، وأنه بدأها “بإيضاح القواعد التي لابدّ منها من فن المنطق لآداب البحث والمناظرة”، واقتصر “فيها على المهم الذي لا بد منه للمناظرة”.
وقد صرح-رحمه الله- أن غرضه من تدريس المنطق هو ” الردَّ على المنطقيين فيما جاؤوا به من الباطل”، و “رد الشبه التي جاء بها المتكلمون في أقيسة منطقية، فزعموا أن العقل يمنع بسببها كثيرًا من صفات الله الثابتةِ في الكتاب والسنة؛ لأن أكبر سبب لإفحام المبطل أن تكون الحجة عليه من جنس ما يحتج به، وأن تكون مركبة من مقدمات على الهيأة التي يعترف الخصم المبطل بصحة إنتاجها”.
-قلت: يظهر جليا من كلام الشيخ العلامة الأمين الشنقيطي أن غرضه من تأليف كتابه “أدب البحث والمناظرة” هو أن يتعلم الطالب كيف يرد على المبطلين من المناطقة والمتكلمين بجنس ما يحتجون به، ولولا ذلك لما كانت هناك حاجة لدراسة المنطق أصلا.
-كما أكد الشيخ ذلك قائلا: “…ولا شك أن المنطق لو لم يترجم إلى العربية، ولم يتعلمه المسلمون؛ لكان دينُهم وعقيدتُهم في غنىً عنه، كما استغنى عنه سلفهم الصالح، ولكنه لما تُرجم وتُعُلِّم، وصارت أقيسته هي الطريق الوحيدة لنفي بعض صفات الله الثابتةِ في الوحيين، كان ينبغي لعلماء المسلمين أن يتعلموه وينظروا فيه ليردّوا حجج المبطلين بجنس ما استدلوا به على نفيهم لبعض الصفات؛ لأن إفحامهم بنفس أدلتهم أدعى لانقطاعهم وإلزامهم الحق”.
-قلت: فالمنطق إذاً عند الشيخ ما هو إلا وسيلةٌ للردّ على المناطقة والمتكلمين، ولولا ذلك لما كانت هناك بالمسلمين حاجة إليه، وليس هو كما يزعم أهله أنه: معيار العلوم كلها، ولا وثوق بعلم من لم يتعلم (كما زعم الغزالي)، أو رئيس العلوم (كما زعم الفارابي)، أو خادمها (كما زعم ابن سينا)، أو هو علم تحصل به العصمة من الخطإ، فهو للجنان بمنزلة النحو للسان (كما قال الأخضري وغيره).
قال الشيخ رحمه الله : “… وجئنا بتلك الأصول المنطقية خالصةً من شوائب الشُّبه الفلسفية، فيها النفع الذي لا يخالطه ضررٌ البتة؛ لأنها من الذي خلّصه علماء الإسلام من شوائب الفلسفة…”.
-قلت: يقصد الشيخ رحمه الله أنه اكتفى في كتابه بذكر الأصول والقواعد المنطقية التي ليس فيها ما يخالف الشرع والعقل، والتي يحتاجها الطالب لردِّ ما عند المناطقة والمتكلمين من الباطل بالسلاح نفسه الذي يوظفونه في تعطيل صفات الباري جل وعلا.
وقد أشار-رحمه الله- إلى توظيف المتكلمين للمنطق في تعطيل الصفات فقال : “… وَقَدْ يُعِينُ على رد الشبه التي جاء بها المتكلمون في أقيسة منطقية، فزعموا أن العقل يمنع بسببها كثيرًا من صفات الله الثابتةِ في الكتاب والسنة“.
-قلت: صدق رحمه الله فإن المتكلمين –من الأشاعرة وغيرهم- قد وظفوا المنطق في تعطيل الصفات، ودسوا ذلك ضمن الأمثلة التي يمثلون بها للطلبة عندما يشرحون لهم أشكال القياس المنطقي بطريقة لا يمكن أن يتفطن لها الطالب المبتدئ.
-ومن الأمثلة على ذلك في التمثيل للشكل الأول من القياس الحملي الاقتراني:
1-قولهم: “العالم متغير” و”كل متغير حادث”:
*النتيجة: “العالم حادث”.
2-وقولهم: “كل جسم مؤلف” و “كل مؤلف حادث”:
* النتيجة: “كل جسم حادث”.
–فالمثال الأول: يتوصلون به إلى تعطيل صفات الله الفعلية كالمجيئ والاستواء، والنزول… بدعوى أن إثباتها يقتضي وصف الله بالتغير، والتغير من صفات الحوادث.
-والمثال الثاني: يتوصلون به إلى تعطيل الصفات الذاتية: كاليد، والعين، والقدم… بدعوى أن إثباتها يستلزم وصف الله بالتأليف، والتأليف من صفات الأجسام الحادثة.
ثم قال الشيخ: “… كما قال العلامة شيخ مشايخنا وابن عمنا المختار بن بونة … في نظمه في فن المنطق:
فـإن تقُلْ حرّمــــــــه النـــــــواوي | ** | وابنُ الصلاح والسيوطي الراوي |
قلتُ نرى الأقوال ذي المخالِفةْ | ** | محلُّها ما صنف الفلاسفــــــــــــةْ |
أما الذي خلّصه من أسلــــمــــا | ** | لا بد أن يعلم عند العــــــــلــــــما |
وأما قول الأخضري في سلمه:
فابنُ الصلاح والنواوي حرما | ** | وقال قوم ينبغي أن يُعْلما |
والقولةُ المشهورةُ الصحيحـه | ** | جوازهُ لكاملِ القريحــــه |
مُمارِسِ السُنّةِ والكتـــــــــــابِ | ** | ليَهتدي به إلى الصــوابِ |
فمحلُّه المنطقُ المشوبُ بكلام الفلاسفة الباطل”.
-قلت: ما نقله الشيخ الأمين رحمه الله عن ابن بونة من تقييد كلام ابن الصلاح والنووي والسيوطي بالمنطق المشوب ليس بصحيح كما تقدم بيانه في المقالات السابقة بيانا شافيا لمن أنصف إن شاء الله…
وما نقله الشيخ عبد الرحمن الأخضري(953هـ) في سُلَّمِهِ عن ابن الصلاح والنووي هو الصحيح عنهما من غير تقييد بالمنطق المشوب، كما يدل على ذلك كلامه في شرحه لأبياته التي ذكرها الشيخ الأمين حيث قال الأخضري: “هذا الفصل موضوع لذكر الخلاف في جواز الاشتغال بعلم المنطق؛ ليكون المبتدئ على بصيرة من مقصوده، وقد اختُلِفَ فيه على ثلاثة أقوال كما ذُكِر: فَمَنَعَهُ النَّوَوِيّ وَابْنُ الصَّلَاح، واستحبه الغزالي ومن تبعه قائلا: “من لا يعرفه لا يوثق بعلمه”، والمختار الصحيح جوازه لذكي القريحة، صحيح الذهن، سليم الطبع، ممارس الكتاب والسنة”([1]) .
فحكى الأخضري الأقوال في المنطق بأمانة علمية من غير تفريق بين منطق مشوب وغير مشوب، ولم يقيد كلام المانعين كما فعل غيره ممن جاء بعده.
وأول من وقفت عليه ممن حمل كلام ابن الصلاح على المنطق المشوب بالفلسفة ابن حجر الهيتمي الشافعي (974هـ)([2])، وقد تَلَقَّفَ ذلك عنه بعض شراح السلم من الشافعية([3])، ثم تتابع الشراح على ذلك من المالكية وغيرهم مخالفين صاحب النظم نفسه. والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــ
([1]) ينظر: مجموع السلم المنورق ص 372-373.
([2]) ينظر: الفتاوى الكبرى الفقهية له (1/49)، وحاشية الشرواني على تحفة المحتاج في شرح المنهاج (1/178).
([3]) ومنهم: القُوَيْسَنِي الشافعي (ت 1254ه)ـ في شرحه على السلم (ضمن مجموع السلم المنورق ص74).