مدونة الأسرة وإغلاق المخارج

23 يناير 2025 19:44

هوية بريس – د.عبد الحميد بنعلي

من وجوه التكامل في التشريع الإسلامي: أنه ما أغلق باباً إلا فتح بإزائه أبواباً أخر، ولا تجد في الشريعة شيئا محرما إلا وجدت بدائله من المباحات الطيبات ما هو أسهل وأيسر كما قد بسطنا ذلك في كتابنا (نظرية البدائل في الشريعة الإسلامية).

وهذه الخاصية تمثل وجها من وجوه الإعجاز التشريعي لهذه الملة الغراء، فلا يدخل بها على المكلف حيف ولا ضيق ولا ضرر.
والشرع الإسلامي قد جاء بما لا يحصى كثرة من الرخص والاستثناءات وألوان من التخفيفات كلها بدائل عن الأحكام الأصلية، “وذلك مثل: مشروعية التيمم عند مشقة طلب الماء، والصلاة قاعداً عند مشقة القيام، والقصر والفطر في السفر، والجمع بين الصلاتين في السفر والمرض والمطر، والنطق بكلمة الكفر عند مشقة القتل والتأليم، وإباحة الميتة وغيرها عند خوف التلف الذي هو أعظم المشقات، والصلاة إلى أي جهة كانت لعسر استخراج القبلة، والمسح على الجبائر والخفين لمشقة النزع ولرفع الضرر، والعفو في الصيام عما يعسر الاحتراز منه من المفطرات كغبار الطريق ونحوه، إلى جزئيات كثيرة جداً يحصل من مجموعها قصد الشارع لرفع الحرج”.

فإذا وضح هذ الأصل: فلنمثل له بمثال يجلي لنا ظلم أصحاب المدونة وقصور نظرهم في الآن الذي يجلي لنا عظمة التشريع الإسلامي وإعجازه للبشر أن يأتوا بمثله.

الزواج في الشريعة: يهدف إلى تحقيق الاستقرار النفسي {وجعل منها زوجها ليسكن إليها} وملء الفراغ العاطفي {وجعل بينكم مودة ورحمة} وتكثير سواد الأمة (تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم).

وهذه المقاصد الشرعية مطلوبة بحسب الإمكان، فحيثما تعذر تحقيقها فإن الشرع يتلافى فك الرابطة الزوجية بالعدل والإحسان، فيندب الزوج إلى ما سميته في بحث لي يصدر قريبا بحول الله (بدائل الطلاق)، ومن هذه البدائل: ما يسمى بالتعدد، وهو الزواج من امرأة أخرى.

وقد راعى الشرع في هذا (البديل) جانب المرأة أكثر من الرجل، فالرجل غارم، والمرأة غانمة، وهذه المصلحة تعود على كلا زوجتيه الأولى والثانية، فالأولى يخف عنها الضغط، وتنجو من مغبة الطلاق، وتفك نفسها من عواقب وخيمة غير الطلاق ناتجة عن تعذر الوفاق بينها وبين بعلها.

والثانية: تفك نفسها من العنوسة والوحدة، وتحظى بتكوين أسرة، وإشباع غريزة الأمومة، وتكسب معيلا ينفق عليها حيا وميتا.
وهو كما ترى بديل تستحسنه عقول العالمين، ولا يماري فيه إلا المكابرون.

وإذا ما نظرنا إلى الزواج في المدونة الحداثية فنجده أولا: لا يراعي مقاصده الشرعية، بل هو فيها مبني على مقاصد مادية بحتة، فهو عندهم من جنس العقود المبنية على النفع والانتفاع المادي المحض، وقد أحاطوه بجملة قوانين تجعله (ورطة) بكل المقاييس، فالداخل فيه مفقود، والخارج منه مولود.

ثم نراهم يضعون المتاريس أمام انعتاق الزوج من ربقة العقد حين يتعذر الوفاق بينه وبين امرأته، بدءا بتعسير مسطرة الطلاق، وجعلها مشروطة بحكم الحاكم، أي أن الطلاق انتقل من كونه حلا لرابطة النكاح بمجرد اللفظ الصادر من أهله بشرطه إلى كونه (قضية) تستدعي المرافعات ومكاتب المحاماة، والجلسات التي تتلوها جلسات، وكأن الزوج هنا أمام (جريمة) مكتملة الأركان.
ثم بجعل الطلاق غنيمة باردة للمرأة المطلقة، فهو باب رزق عظيم تكسب من ورائه كد الزوج وسعيه وماله الذي أفنى فيه عمره حتى يسهل عليها أن تعيش به مع زوج جديد، وتنفق منه على عيالها منه.

فقد جعلوا الزواج إذن وظيفة من جنس الوظائف العقدية التي ينال فيها الموظف بعد انتهاء فترة العمل راتب التقاعد ومكافأة نهاية الخدمة، غير أنهم جعلوا الزوجة أحظى من الموظف نفسه، فهي تستحوذ على نصف ممتلكات الزوج، وقد تستحوذ عليه كله إذا كان ذلك هو مؤدى (التثمين)! هذا بالإضافة الى النفقات اللازمة للزوج المتورط المسكين.

وقد رأينا أن الشرع: أوجد بديلا معقولا للطلاق، لكن هؤلاء حرموا ذلك البديل، وسفهوا فاعله، وتوعدوه الويل والعظائم.
فلا هم سهلوا عليه الطلاق، ولا هم مكنوه من بديله، فصار الزواج إذن ورطة (حصلة) كاملة الأوصاف مع سبق الترصد والإصرار.

وقد غفل هؤلاء الخراصون: أن حشر الزوج في زاوية، وغصب أملاكه بقوة القانون، وإرغامه على استدامة زواج لا يجد فيه ذاته وروحه هو عين المفسدة، ولن يكون لهذا الرجل حل والحال هذه إلا (الإجهاز) على هذه المرأة البئيسة كما هو حاصل بالفعل حتى غدا ذلك ظاهرة غير نادرة.

أين يكمن الإعجاز إذن؟

الإعجاز التشريعي هنا كامن في تحقيقه للمصلحة البشرية على أتم وجه وأحسنه، وتلافيه لأي عاقبة وخيمة بجعله علاقة الزوجية علاقة مبنية على المودة والرحمة والعدل والإحسان والعطف والحنان، ثم بندبه إلى اتخاذ البدائل المباحة عن الطلاق، ثم بفكه لهذه الرابطة بسهولة ويسر دون حيف لا على زوج ولا على زوجة. {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
10°
19°
السبت
19°
أحد
19°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة