هوية بريس – شريف عبد العزيز
“لقد فعلها أولادنا“، بهذه العبارة الأبوية المليئة بالفخر والزهو نقل أحد كبار ضباط وكالة المخابرات المركزية خبر الانقلاب العسكري التركي سنة 1980 للرئيس الأمريكي، جيمي كارتر، وهو الانقلاب الدموي الأبشع في تاريخ تركيا الحديث، والذي خلف آلاف القتلى والجرحى ومئات الآلاف من المعتقلين، هذا غير الذين اختفوا تماما، فلم يعلم لهم حياة أو موت.
هذه العبارة هي عنوان الحقيقة في طبيعة الدور المخابراتي الأمريكي والانقلابات العسكرية الأربع ، والتي ترسم مسار سبعين سنة من العلاقات المتشابكة بين أمريكا وتركيا. سبعين سنة من الاضطراب:
فلقد تبلورت العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وتركيا بمفهومها الجديد لأول مرة خلال الحرب العالمية الثانية، وتحديدا بعد الاجتماع الثاني في القاهرة سنة 1943، عندما اجتمع كل من الرئيس الأمريكي روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل والرئيس التركي عصمت اينونو في العاصمة المصرية، القاهرة. وخلال هذا الاجتماع اتفق كل الأطراف على بناء قاعدة انجرليك الجوية في تركيا التي تستعمل اليوم لشن العمليات الجوية للتحالف الدولي على مواقع تنظيم الدولة في سوريا، لكن البداية الفعلية للمشروع لم تنطلق سوى سنة 1951.
ومع زيادة النفوذ السوفيتي الشيوعي في أوروبا الشرقية أصبحت تركيا نواة المشروع الأمريكي في التصدي للهيمنة الشيوعية على أوروبا وحائط الصد الأول في مواجهة انتقال الأفكار الشيوعية إلى أوروبا الغربية وأسيا . وأصبحت تركيا أهم عضو في منظمة الناتو وشاركت في الحرب الكورية إلى جانب قوات الأمم المتحدة بين سنة 1950 و1953. وفي سنة 1954، وقّعت الولايات المتحدة وتركيا اتفاقية الاستغلال المشترك لقاعدة انجرليك الجوية.
الأهمية الجيوسياسية لتركيا بالنسبة للمعسكر الغربي عامة والولايات المتحدة خاصة جعلت للوضع التركي حساسية زائدة عند صانع القرار الأمريكي، فأي تغير ولو طفيف في السياسة الخارجية التركية وأي مؤشر ولو عابر على نية الساسة الأتراك بالخروج عن فلك السياسة الأمريكية كان كفيلا أن يطلق جرس الإنذار الأحمر في البيت الأبيض، ووكالة المخابرات الأمريكية، بإجراءات تأديبية تعيد الساسة الأتراك إلى رشدهم، فإذا فشلوا يتدخل الجيش التركي حامي العلمانية التركية وصنيعة المخابرات الأمريكية بالانقلاب العسكري. فلم يكن عدنان مندريس، رئيس الوزراء التركي حتى سنة 1960، معاديا للولايات المتحدة أو لحلف الناتو، لكنه كان يبحث عن تمويلات بديلة بعدما أدرك جيدا أن أمريكا لن تسمح لتركيا بإقرار إصلاحات هيكلية أو الحصول على قروض لتمويلها، إلا أن خطته أجهضت بعدما أطاح به المجلس العسكري في انقلاب 1960، وحكم بشنقه.
وفي سنة 1974 تحدت تركيا الولايات المتحدة بإرسال قواتها لحماية القبارصة الأتراك، غير مكترثة بتهديدات واشنطن بعد حدوث انقلاب عسكري في قبرص بقيادة الحرس الوطني القبرصي والمجلس العسكري اليوناني ،فأعلنت أمريكا عن حظر بيع الأسلحة لتركيا في سنة 1975، منحازة بذلك إلى اليونان، وبعدها بدأت سلسلة من الضغوط على رئيس الوزراء التركي، مصطفى بولنات أجاويد مما دفعه للاستقالة سريعا، واضعا تركيا أمام خيار الانتخابات المبكرة، شهدت خلالها تركيا مشاهد مختلفة من الفوضى والتحالفات السياسية.
وفي سنة 1980 وبعد تنامي نفوذ القوى اليسارية المتطرفة، وكثرة الصدامات الحزبية والأيديولوجية في تركيا، تخوفت أمريكا من عودة الإسلام للعب دور هام في حياة الأتراك، فتحرك الأولاد في الجيش -حسب وصف الأمريكان- وقاد كعنان إيفرين الجيش التركي لانقلاب عسكري دموي، وشهدت تركيا خلاله موجة ضخمة من أعمال القمع والاستبداد راح ضحيتها عشرات الآلاف.
هذه المشاهد المتكررة والسيناريوهات المحفوظة جعلت الشعب التركي على قناعة كبيرة بأن أي انقلاب يقع في بلادهم هو من تدبير الأمريكان، وهو ما أعلنته صراحة صحيفة نيويورك تايمز، بقولها: أن 69% من الأتراك يعتقدون بوقوف المخابرات الأمريكية وراء محاولة الانقلاب الفاشلة التي تعرضت لها البلاد منتصف يوليو الماضي. وفي نفس السياق اتهمت صحيفة “يني شفق”، التركية، قائد قوات المساعدة الدولية لإرساء الأمن في أفغانستان الجنرال الأمريكي “جون كامبل”، بإدارة تلك المحاولة الانقلابية الفاشلة. وقالت نيويورك تايمز: إنه ربما تكون تركيا بلدًا يعاني من استقطاب عميق، لكن الشيء الذي أجمع عليه الأتراك بفئاتهم وطوائفهم من إسلاميين وعلمانيين وليبراليين وقوميين، أن الولايات المتحدة كانت بشكل أو بآخر ضالعة في مؤامرة الانقلاب الفاشل.
والخلاصة أن التوتر الذي تشهده العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا بعد الانقلاب الفاشل الذي هزّ تركيا في الشهر الماضي، ومماطلة واشنطن في تسليم فتح الله كولن الذي تعتبره تركيا العقل المدبر لمحاولة الانقلاب الدموي، يمكن أن يكون الفصل الأخير في سلسلة التوترات التاريخية التي تشهدها العلاقات الثنائية بين أنقرة وواشنطن. العداء الفاضح لأردوجان:
حالة من العداء الفاضح والشديد لأردوجان اجتاحت المشهد السياسي والإعلامي الغربي عامة والأمريكي خاصة ، حتى وصل الأمر لتخلي ساسة مخضرمين ، وذوي مناصب رفيعة وحساسة لئن يتخلوا عن وقارهم السياسي المصطنع ويجاهروا أردوجان بالعداء بعد فشل الانقلاب العسكري الأخير . فيتأسف كبير الخبراء في “جمعية الدفاع عن الديمقراطيات”، جون هانا، لرعونة الانقلابيين الأتراك “الذين لم يراعوا القواعد الأساسية للانقلاب” بعدم اعتقالهم رئيسي الدولة والحكومة، وهو تجلٍ للنفاق الأمريكي ، إذ كيف يمكن أن يعمل في جمعية تدّعي الدفاع عن الديمقراطيات حول العالم، ويتمنى في الوقت نفسه لو نال انقلابيو تركيا من رئيسها وحكومتها المنتخبين؟!
وقائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال جوزيف فوتيل يقول في منتدى آسبن الأمني بولاية كولورادو: “أن الرئيس التركي رجب طيب أردوجان اعتقل عددًا من أوثق حلفاء أمريكا العسكريين في الجيش التركي” وذلك عقب المحاولة الانقلابية، مشيرًا إلى أن واشنطن ينتابها هاجس دائمًا بالانقلاب الفاشل بتركيا ورد فعل حكومة أنقرة عليه .فيما تحدث مدير المخابرات الوطنية الأمريكية جيمس كلابر عن أن التطهير العسكري الذي يجري في تركيا للجيش بعد محاولة الانقلاب الفاشلة تعيق التعاون في الحرب التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”. وقال بعبارة شديدة الوضوح :”كثيرين ممن كنا نتعامل معهم استُبعدوا أو اعتُقلوا، وما من شك في أن ذلك سيحدث انتكاسة ويجعل التعاون أكثر صعوبة مع الأتراك”.
هذه التصريحات تأتي في سياق مواصلة أردوجان وحكومته اتخاذ سلسلة من القرارات التي وصفت بـ”التاريخية”، وأحدثت تغييراً جوهرياً وجذرياً في تركيبة وهيكلة الجيش التركي وتبعيته، في تحول نحو “مدنية الدولة” سيقلص خطر الانقلابات العسكرية في المستقبل لدرجة كبيرة جداً، بحسب محللين ووسائل إعلام تركية متعددة. فبعد إلحاق جهازي الجاندرما وخفر السواحل بوزارة الداخلية، تم إلحاق قادة القوات البرية والبحرية والجوية بوزير الدفاع، في خطوات تنقل السيطرة على جميع وحدات الجيش الرئيسية لقيادات مدنية، بالتزامن مع مساعي أردوجان لضم رئاسة الأركان والاستخبارات لسلطته المباشرة. ولأول مرة في التاريخ سيكتسب نواب رئيس الوزراء، ووزراء العدل والخارجية والداخلية عضوية مجلس الشورى العسكري الأعلى، بعد أن كان يخلو المجلس من أي شخصية قيادية مدنية عدا رئيس الوزراء الذي كان يترأس الاجتماع العسكري الأبرز والذي يعقد مرتين سنوياً. كما أصدر أردوجان قرارا يقضي بإغلاق الأكاديميات الحربية والثانويات العسكرية ومدارس إعداد صف الضباط، في البلاد، التي يعتقد على نطاق واسع أن أنصار كولن يسيطرون عليها بشكل واسع. أوباما ورأس أردوجان:
أوباما يلملم أوراقه ويستعد للرحيل عن البيت الأبيض في أواخر هذا العام بعد أن قضى مدتين رئاسيتين متتاليتين ، وبعد أن حقق إنجازات كبيرة بوأته مكانة بارزة في سجل الرؤساء الأمريكان، فهو الذي أنقذ أمريكا من ورطتها الكبرى التي أوقعها فيها بوش الصغير ومغامراته غير المحسوبة، وهو الذي أنعش الاقتصاد الأمريكي بعد النكبة الكبرى سنة 2008، وهو الذي قدم للأمريكان رأس ألد أعدائهم؛ أسامة بن لادن، بعد عشر سنوات من الفشل في القبض عليه، وهو الذي أشعل منطقة الشرق الأوسط بحروب طائفية مروعة راح ضحيتها حتى اليوم الملايين من القتلى والجرحى والمشردين، في حين لم يخسر جندي واحد في هذا القتال الطائفي، وأصبحت المنطقة الإقليمية على برميل بارود متفجر بسبب انحيازه لإيران الشيعية وإصراره على عداء أهل السنة بمحاربة تحت غطاء دولي مفضوح اسمه التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب!!
أوباما وهو يلملم أوراقه يبحث اليوم وبجدية عن تحقيق آخر أهدافه ، يبحث عن مجد يضاف إلى سجل أمجاده الدموية، يبحث وبكل صراحة عن رأس أردوجان. فأمريكا ظلت متوائمة مع سياسات أردوجان مادامت لم تخرج عن النسق العام للمعسكر الغربي والأمريكي، وتذرعت بالصبر تجاه المواقف المتصلبة لأردوجان تجاه العديد من ملفات المنطقة مثل الحرب على العراق والثورة السورية والموقف من الثورات العربية عامة والانقلاب العسكري المصري خاصة، وهي ترى أن رجالها وأولادها في الجيش التركي سوف يتحركون في أي لحظة يطلب منهم السادة في البيت الأبيض التحرك، كما حدث من قبل في أعوام 60، 83، 97 من القرن الماضي.
وخط سير الانقلاب العسكري الأخير يكشف بجلاء عن أن الخطوة الأولى لهذا الانقلاب، بل الهدف الأول منه هو قتل أردوجان وكبار رجال حزبه، وتحقيقات النيابة التركية كشفت عن تفاصيل مروعة من محاولة اغتيال أردوجان بطائرات أف 16 تزودت وأقلعت من قاعدة انجرليك، وتعاون مركز مخابراتي أمريكي (ستراتفور) مع الانقلابيين بإعطائهم إحداثيات الطائرة التي تقل أردوجان ليلة الانقلاب لقصفها.
ولكن صدمة الفشل المروع في الانقلاب الأخير، والإجراءات الاستثنائية السريعة لأردوجان وأعضاء حزبه من أجل هيكلة الجيش التركي وتقليم أظافره إلى الأبد، بحيث لا يعد له أي دور في المستقبل السياسي لتركيا، وحالة التوافق الشعبي والسياسي لمثل هذه الإجراءات، جعل الأمريكان في وضع حرج للغاية ، وضع قد يدفع لليأس ورفع سقف المواجهة لأعلى المستويات، بحيث أصبح من الأمور المتداولة للنقاش داخل أروقة المؤسسات السيادية في أمريكا؛ حتمية التخلص من أردوجان، وهو ما أدركه أردوجان مبكراً، فعمل على تحشيد الشارع التركي وتثويره للوقوف والتصدي لأي محاولة جديدة للانقلاب العسكري.
أوباما اليوم يضع كل إمكانات الأجهزة الأمنية والاستخبارتية الأمريكية من أجل التخلص من أردوجان وإخراجه من المشهد التركي بالكلية قبل أن يستكمل مشروعه الكبير في تحييد الجيش التركي، وبناء تركيا الجديدة التي تتخلص من إرث أتاتورك البغيض، وتنهي حالة التسلط العسكري الدائم على مقدرات الشعب التركي منذ عشرات السنين. فلم يبق لأردوجان سوى كتابة دستور جديد لتركيا يتخلص به من دستور العسكر الذي كتبوه سنة 1980 والذي يمثل آخر بقايا النظام الكمالي . فهل ينجح أوباما في مسعاه ويتوج إنجازاته الكثيرة برأس أردوجان، ويجعل اسمه مزاحما لأسماء الكبار في التاريخ الأمريكي الدموي، أم سيفشل وينجح أردوجان في تحقيق أهم أهدافه؟
الشهران القادمان سيخبرنا على الأغلب بالنتيجة.