الثقافة والإعلام: دفاع عن الهوية في وجه الغزو الثقافي

13 أبريل 2025 10:55
تجديد التراخيص، الإذاعات الخاصة، قطاع الإعلام، المعايير القانونية، استراتيجية "الهاكا"، التعددية الثقافية، حماية الكرامة الإنسانية، التنوع الإعلامي، دفاتر التحملات، جودة البرامج.

هوية بريس – د.عبد المجيد آيت عبو

إن الثقافة في حقيقتها: أسلوب حياة متكامل، يصبغ الأخلاق والعقائد والأعراف والأنظمة والمعارف بصبغته الفريدة، وليست مجرد معارف متفرقة أو علوم مُبَعثرة. أما الإعلام فهو مرآةُ الثقافة وصوتُها العالي، وهو إما صادق يعكس روحَ الأمة وهويتها، أو زائف يُشوِّهُ ويحرِّف. وبهذا يغدو الإعلامُ وسيلةً، والثقافةُ غايةً. هذه الحقيقة البينة تفرض نفسها بإلحاح في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخنا، حين نسعى جاهدين لاستعادة وعينا بأنفسنا، وإحياء ثقافتنا العظيمة التي طالما أضاءت للعالم دروب الهداية والرشاد.

لقد سطّر أجدادنا أروع صفحات الإعلام الهادف منذ فجر الإسلام، فكان إرسال النبي نبينا صلى الله عليه وسلم رسله إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام؛ عملاً إعلامياً رائداً ذا بُعد عالمي. وَوَقف جعفرُ بن أبي طالب أمام النجاشي مُقَدِّمًا بفصاحة البليغة نموذجاً فذاً للخطاب الإعلامي الواضح المؤثر.

والقرآن الكريم هو الإعلام الإلهي الشامل للخلق جميعاً، يدعو إلى قيام أسلوب حَياةٍ تتحقق من خلاله كرامة الإنسان، وإلى بناء ثقافة مزدانة بما كرّم الله به الإنسان من حرية وإرادة وعقل. تلك هي الثقافة القرآنية التي ظلت مهيمنة ما بقي العرب أقوياء، وأنعمت على أجيال متتابعة من البشر بظلالها الوارفة وخيراتها الدافقة.

لكن عندما دارت الدائرة على أمتنا وضعُفت واستكانت، أطبقت عليها الثقافة الغربية بكل جبروتها. وصار المغلوب –كما قال ابن خلدون– مولعاً بتقليد الغالب. فتباعدت الشقة بيننا وبين أصولنا، وضعُف الاجتهاد، وساد التخلف، وفقدنا الحس النقدي الذي يميز الخبيث من الطيب.

وها نحن اليوم أمام معركة مصيرية: يجد الإعلاميون العرب أنفسهم في مواجهة قضية ذات وجهين متلازمين: إضاءة جوانب الثقافة القومية وإحيائها وتقديمها إلى شعوبهم من جهة، ودرء الثقافة الغازية وأنماطها المدمرة من جهة أخرى. وما يزيد الموقف خطورة أن ثقافتنا العربية موسوعية الطابع، عميقة الجذور، وأن ثقافات العالم تكاد تستسلم لنموذج ثقافي واحد يسعى للهيمنة، مسلحاً بوسائل اتصال بلغت الغاية في التطور والانتشار.

لا بد للإعلام العربي أن يقدم للأمة تراثها العظيم في صورته الحية المتجددة التي تسري روحها في صميم حركة العصر، لا متحفاً للمفاخرة والتغني بالأمجاد. هذا ما يفعله شعبنا العربي العظيم الذي لا ينظر إلى تراثه نظرة معرفية مجردة، بل يحياه في وجدانه رصيدا لأيامه الصعبة، وحكمته وصبره ويقينه، ومصدرا لنهضته وانبعاثه.

نعم، نحن أمة ممزقة، ولكننا قادرون -في حدود المتاح- على مجابهة الهجمة الإعلامية الغربية. فالنموذج الثقافي الأمريكي يشكل الخطر الأعظم على عالمنا العربي والإسلامي، ومقاومته ليست ترفاً فكرياً، بل دفاعاً مشروعاً عن النفس وجوهر الوجود. وما يجعل الخطر أشد هو سيطرة الصهيونية على وسائل الإعلام العالمية، وترويجها لأكثر المذاهب ضلالاً، وأشد الأخلاق انحطاطاً، في محاولة لإلحاق أمم الأرض بعضها ببعض في دَرَكٍ سحيق، لتظل هي صاحبة النفوذ والسيطرة.

من واجب الإعلاميين العرب الغيورين على أمتهم أن يقفوا سداً منيعاً دون سيطرة هذا النموذج الثقافي المنحط على شعوبنا، وخاصة في جوانبه الأخلاقية حيث يكمن الخطر الأعظم. فالأخلاق هي حصن الاعتقاد الأول؛ فإذا تخلخلت حلقاتها أصبح النفاذ إلى أصل الاعتقاد سهلاً ميسوراً، وحينها يبدأ الانحراف عن النسق الحضاري الأصيل، ويبدأ التسليم لنمط حضاري مغاير، وهذا هو أول السقوط.

أليس من المفارقة المؤلمة أن الغربيين أنفسهم بدأوا يدركون خطورة النموذج الأمريكي على هويتهم وحضارتهم، بينما نحن نلهث وراء هذا النموذج الهابط؟ وما أضعف حجة من يدَّعي أن استيراد التكنولوجيا يستلزم حتماً استيراد القيم والثقافة!

لقد آن الأوان لنخرج من التبعية النفسية المقيتة، ونقف على صعيد ثابت نرى فيه أنفسنا وتاريخنا وإمكاناتنا بوضوح. وعلينا أن نضع خططا نستنهض بها ثقافتنا القومية ونحميها من كل ما يحاك ضدها. وإذا كنا لا نملك القرار السياسي، فإننا بما نملكه من كفاءات وطاقات غيورة في مجالات الفكر والصحافة والثقافة والإعلام، قادرون على أن نجعله أقرب ما يكون إلى قرارنا الثقافي واختيارنا الحضاري وإرادتنا القومية. وذلك هو مجالنا الرحب الذي لا يمكن لأحد أن يغلق أبوابه في وجوهنا إذا كنا مخلصين لقضيتنا، أوفياء لرسالتنا.

المراجع:

– مشكلة الثقافة، مالك بن نبي، دار الفكر، بيروت، ترجمة: عبد الصبور شاهين.

– في سبيل ثقافة عربية ذاتية، عبد الله عبد الدائم، دار الآداب، بيروت 1983.

– ثقافتنا القومية والأنموذج الأميركي، إبراهيم العجلوني، مجلة الآداب، لبنان، العدد 1-3، يناير 1984.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
20°
19°
السبت
19°
أحد
19°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة