الفكر الغربي بين المأزق والافلاس

02 يونيو 2025 20:27

هوية بريس – ابراهيم الناية

قد يستهجن البعض ويتساءل: كيف يمكن الحديث عن افلاس الثقافة الغربية والغرب يعيش تقدما تقنيا هائلا وحالة من رغد العيش التي يدعمها التنظيم الاداري المنضبط وفق الضوابط القانونية التي شرعها الانسان لنفسه.؟ واي نمط فكري من الثقافة الغربية يتعلق به حديثنا. هل الجانب العلمي ام اللون الآخر المدعو الآداب والعلوم الانسانية.؟ ثم الا يعد الحديث عن افلاس ثقافة الغرب محض افتراء.؟ ولكن الا يحق لنا التساؤل عن ما خلفته تلك المنظومة الفكرية من اثار على التماسك الاجتماعي والاخلاقي للمجتمع الذي يعد الاخلال به بداية الانهيار؟ . ثم ما هو الخيط الناظم بين كل ألوان أو انماط الثقافة الغربية المتعلقة بالجوانب الفكرية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية للانسان في الغرب.؟ واذا كان الغرب يتمتع بكثير من الفضائل عكس ما ندعي ويتمتع افراده بالحضن الدافئ فكيف نفسر فرار كثير من عناصره الى الاسلام واعتناقه؟.

هذه اسئلة سنحاول التعامل معها ومع غيرها. ولكن بداية يمكن الاقرار ان هناك قاسما مشتركا بين كل انماط الثقافة الغربية المرتبطة بالعلوم الانسانية او المسماة علوم التغيير الثقافي وهذا القاسم يتجلى في المفاهيم التالية: التطور ، التناقض ،الصراع ، التغير، عدم الثبات، نكران الغيب او المعتقدات ،المادية الحرية. وقد تم توظيف هذه المفاهيم بعضها او جلها في تلك التحولات التي حصلت في الغرب. منذ عصر النهضة الاوروبية وظهور النزعة الإنسانية ،وفلسفة الانوار، والثورة الصناعية والفرنسية. ولكن الغرب ومنذ البداية بدأ يعيش حالة من التململ فالثورة الصناعية كانت هي البداية الفعلية للرأسمالية المتوحشة التي وضعت الحجر الاساس للنظام البنكي الربوي الذي افقر البشرية. ثم ان الثورة الفرنسية رغم مناداتها بالحرية والاخاء والمساواة، تحولت بعد ذلك الى حركة استعمارية احتلالية أذاقت كثيرا من الشعوب المرارة والقتل واستنزفت خيرات اوطانهم. الم يقل احد المفكرين البارزين الذي عاش في الغرب ودرس تحولاته : ” إن الانسان الغربي على مسار قرنين من الزمان اكتسب كل شيء الا نفسه.” للدلالة ان البداية لم تكن سليمة. وهذا هو جذر القضية، فرغم التقدم التقني القائم اليوم في الغرب. وانتشاره على اوسع نطاق. لكن هل حقق انسانية الانسان؟ وما اثره على البناء النفسي للانسان؟ وكيف نفسر ان النمط الفكري الذي ساد في الغرب هو الذي دفع كثيرا من المفكرين الكبار الى الانتحار او الاحالة الى مستشفيات الأمراض العقلية ؟ ألم يتساءل (اليكسيس كارليل) كيف يمكن ان تستمر حضارة تخالف طبيعة خلق الانسان.؟ لكن قد يتساءل المرء عن الاسباب التي ساعدت على تراجع الثقافة الغربية وعدم استمراريتها؟

1 – إن أول اسباب تراجع الثقافة الغربية هو ذلك الصراع الذي حصل بين العقل والكنيسة، فالعقل الانساني كان يدعو الى ان يتحرر الانسان من سلطان الكنيسة المدعمة للاقطاع والظلم والاستبداد، وهنا ترسخ في ذهن الانسان الغربي ان كل ما ينتمي في اصوله الى الإيمان بالغيب ينبغي الانتهاء منه وعدم الاعتراف به نظرا لما خلفته ممارسة الكنيسة من آثار في نفسية الانسان الاوروبي. ولكن المشكل هو ان اوروبا تخلصت من الكنيسة ولكنها عادت الى التراث الاغريقي، ألم يقل الألمان إنهم الورثة الشرعيون للحضارة الاغريقية؟. والغريب ان كبار فلاسفة اليونان يقولون بالثبات والغيب ما عدا هرقليطس. واقروا بالعبودية والطبقية، بقطع النظر أن الفلسفة اليونانية في غالبيتها فلسفة ميتافيزيقية.

2- ولم يكتف الاوروبيون عند هذا الموقف بل تجاوزوه الى مفهوم الانسان ذاته خصوصا بعدما ظهرت الداروينية ،واصبحت تضفي على الانسان طابع الحيوانية. ولذلك قامت الرؤية الغربية للانسان على اشباع الجانب البيولوجي فقط، وكأن الانسان ليس له الا بعد واحد مما جعل (ماركوز) ينتقد هذا التوجه في مؤلف له: ” الانسان ذو البعد الواحد” ، مما سيترتب عن هذه الرؤية ان الغرب انشأ حضارة او تقدما تقنيا أطلق عليه أحد الباحثين حضارة الاشياء.
3- وقد جاءت الفلسفة المادية بكل توجهاتها مكملة وداعمة لنظرية التطور الداروينية حيث تحدثت عن الانسان واسقطت عليه مفاهيم الحيوان والمادة، والادهى من ذلك ان الفلسفة المادية قدمت للناس على انها علم، في حين انها لا تعدو ان تكون نظريات بشرية تصيب وتخطء، وتخضع لأهواء الفلاسفة وظنونهم، ولذلك ينبغي التمييز بين العلم والفلسفة المادية ،ولكن الذي ساعد الفلسفة المادية أن تتبنى هذا الموقف هو ان اوروبا اخذت بالمنهج التجريبي وفصلته عن البعد الالهي واسست تقدمها على هذا المنهج التجريبي المفصول تماما عن كل بعد غيبي.

ان هذه الرؤية المادية هي التي صنعت ذلك الانسان الاناني، الذي لا يعرف الا مصلحته وذاته، وعندما يغادر بلده يتحول الى التدمير والنهب والسيطرة، لانه لم يتلق رؤية تنظر الى الانسان ان له جانبا روحيا آخر ،فضلا عن بعده العقلي والجسدي، ومن هنا نخلص الى القضية التالية: ان معرفة حقيقة الافكار والنظريات يتعين ملاحظة اثارها ونتائجها على نفسية الانسان وكيانه اجمالا. لكن قد نتساءل عن المفاهيم الأساسية التي استند عليها الفكر الغربي في قيامه؟ فبقطع النظر عن قولهم بمادية العالم ،وعدم الاعتراف بتأثير الغيب على حياة الانسان والاقرار بحيوانية الانسان فان الفكر الغربي سيقول بالتطور والتغير في كل شيء فليست هناك اخلاق ثابتة ،وانما تتطور بتطور المجتمعات، كما انه ليست هناك حقيقة موضوعية، وإنما الحقيقة نتاج مجتمعي ،وان لكل مجتمع حقيقة كما يقول مشيل فكو. وعلى هذا الاساس لم يستطع الفكر الغربي ايجاد التوازن بين الثوابت والمتغيرات. فكانت اوروبا في زمن الكنيسة تؤمن بالثبات في كل شيء من اجل تبرير بقاء الظلم والاستبداد وممارسة الاقطاع، ولكن الغرب بداية من عصر النهضة وظهور الداروينية وفلسفة الانوار والفلسفة المادية وكل الفلسفات القائلة بالتطور والتغير انقلب الفكر الغربي وغير التوجه ،واصبح التطور والتغير هو السمة التي تطبع كل شيء في حياة الغرب ولم يعد هناك شيء ثابت يتعلق بالكون والحياة والانسان فليست هناك اخلاق او دين او رؤية عن الله ثابتة، فكل شيء خاضع لمنطق التغير .وهذا الامر مجانب للصواب، فهناك الثابت وهناك المتغير ،ففي النفس البشرية امور ثابتة لا تتغير، وهناك احوال وظروف متغيرة .ولذلك ففي الاسلام استنباط الاحكام المتجددة من الاصول الثابتة وهكذا يهدف الاسلام الى تصحيح ما هو ثابت في النفس البشرية لتتغير نظرة الانسان الى الاشياء. “ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم”.

ومن المفاهيم الفكرية التي قامت عليها الثقافة الغربية، وهو ذلك الصراع بين الانسان والغيب. كما ورثه الغرب عن اليونان. الم يقل أبيقور: إن الالهة خلقوا العالم ولكن عليهم أن لا يتدخلوا في حياة الناس. فهذا الصراع القائم اليوم عند الغرب بين الايمان ورفضه له جذور تاريخية، علما ان سلوكات الكنيسة غذت ذلك الصراع اضافة الى ظهور موجات الحادية عند بعض فلاسفة الغرب كنيتشه وسارتر وهايدغر وغيرهم. ومن ثم سعى الانسان في الغرب الى ان يحقق ذاته بمعصية الخالق. وعليه لم يستطع الفكر الغربي ان يحدث الانسجام بين عالم الغيب وعالم الواقع. الذي يعيشه الانسان لأن الإيمان بالله في نظر المنظومة الغربية اصبح عائقا امام البحث العلمي، واستنتجوا هذا الموقف من ممارسة الكنيسة، ولذلك إن مشكلة الغرب هي ان الاوروبيين كانوا يعيشون على مجموعة من المعتقدات يطلقون عليها اسم الدين، ولكن بدون مساهمة في العمل الذي يمكن ان يشارك في التقدم التقني، وبداية من تحولات عصر النهضة اسس الغرب تقدما تقنيا بلا ايمان. وعدم الاوروبيين بالغيب هو الذي جعلهم لا يستطيعون تحقيق الانسجام بين الدنيا والآخرة في كيان الانسان. وعلى هذا الاساس عطلت اوروبا فاعلية قدر الله واستبدلته بفاعلية الانسان كما فعل ذلك المعتزلة والفلاسفة في العالم الاسلامي قديما. ولكن في التصور الاسلامي لا تناقض بين فاعلية الانسان وفاعلية قدر الله، والانسان المسلم امن بفاعلية الإنسان المؤسسة على فاعلية قدر الله. فلا تناقض بينهما ما دامت فاعلية الانسان قائمة على فاعلية قدر الله. ولذلك انزل الله القرآن وجعل تحقيقه في الواقع بالجهد الذي يبذله الانسان.

لكن ما هي اثار هذا الانحراف الفكري على البناء الاجتماعي والنفسي للانسان الغربي؟ اي ما هي النتائج المترتبة عن هذا المنحى الفكري وبالاحرى ان هناك مدارس فكرية حملت لواء التغيير كالماركسية واتباع نيتشه، والفرويدية والدوركايمية والوجودية… الى غير ذلك من الاتجاهات المتعددة التي قدمت تصورا جديدا عن الانسان والحياة.؟ فلقد اتجهت كل هذه التصورات الى وجهة واحدة وهي احداث القطيعة مع الغيب ،وكل ما له علاقة بالمعتقدات والاخلاق الموروثة، ودعت الى ما يطلقون عليه اسم الحرية التي لا حدود لها، وهكذا تفككت الاسر وشاع الشذوذ، بل ذهبت بعض التصورات الى الخروج عن منطق الحياة البشرية. مما فتح المجال الى ظهور عبدة الشياطين وجماعات تمارس افعال قوم لوط، وفي هذا المناخ انتشرت موجات إلحادية مدمرة وساد الشك في المجتمع الغربي وشاعت الحيرة والقلق والاضطراب النفسي مما ادى الى انتشار ظاهرة الانتحار بصورة مخيفة ،وطغت على حياة المجتمع الغربي العقلية الأنانية المفرطة وعبادة الاشياء والاستخفاف بالمعتقدات ،ويدلل انتشار هذه الظواهر مدى الانحراف الفكري والثقافي داخل المجتمع الغربي، ومن ثم عاش الناس في التيه والضياع في الغرب، ولكن قوى الشر المتحكمة في المجتمع الغربي لا تترك له فرصة ليستفيق من الدوامة التي يدور فيها، ولكن الذي يتمادى في العجرفة ستكون نهايته مؤلمة نتيجة ما يمارسه من ظلم، لان هذه الرؤية السائدة في الغرب لا يمكن ان تستمر ولذلك فر كثير من افراد هذا المجتمع الى الاسلام لينقذوا انفسهم من من براثن الضياع والحيرة التي تأكل حياتهم في الغرب، وهذا الذي دفع بعض الاوروبيين الى القول ان بوادر الانهيار اصبحت ماثلة للعيان. ومن نتائج الفكر المنحرف ازدواجية المعايير في التعامل مع قضايا الشعوب. فالغرب يدافع عن حرية التعبير عندما يتعلق الامر بالاستخفاف بالمعتقدات الاسلامية. ولكن عندما تمس رموز بعض بلدانهم يتحدثون عن السيادة. وقس على ذلك مسألة حقوق الانسان، واية حقوق يتحدثون عنها.؟!. إن الحقوق التي يتحدثون عنها هي الحقوق التي تسمح بها ثقافتهم. ولقد سبق ان ذكرنا ان من نتائج الثورة الصناعية انتشار الاقتصاد الربوي مما ادى الى انتشار الرأسمالية المتوحشة في مظاهرها الربوية المدمرة. وكان لليهود اليد الطولى في انتشار البنوك الربوية ،الامر الذي جعل الغربيين يتضايقون من سلوكاتهم وممارساتهم المشينة الشيء الذي دفعهم الى البحث عن مخرج للتخلص منهم، رغم أن الصهيونية تفكير غربي خالص. ولذلك وذلك بزرعهم في قلب العالم الاسلامي وتشريد شعب باكمله.

واذا كانت اوروبا تسير الافلاس الفكري والاخلاقي فكيف نفسر تمسك جماعة من ابناء جلدتنا بافكارها ورؤيتها للحياة؟ وكيف تعاملت هذه الجماعة من اتباع الغرب مع الثقافة الاسلامية؟

لقد ظن هؤلاء الأتباع ان النموذج الغربي هو المنقذ من الضلال ولذلك انصهروا فيه واصبحوا يروجون لكل ما يطرحه وخاصة الجوانب السلبية المؤسفة السالفة الذكر حتى فقدوا ذواتهم ،فقد ترتب اجيال على التبعية للغرب من خلال مناهج التعليم ووسائل الاعلام المأجورة، ومن ثم تمت تنشئة اجيال لا تعرف شيئا عن الاسلام. بل كلما ذكر الاسلام ينتابها التقزز. ولذلك دعا هؤلاء الاتباع الى الانسلاخ من الاسلام. لانه في تقديرهم رجعية وتخلف. بل وسبب تخلف المسلمين هو تمسكهم بالاسلام، ولذلك ينبغي الالتحاق بمصاف الدول الراقية التي هي في الواقع رمز للهيمنة والتسلط. ولذلك يريد هؤلاء الاتباع فرض رؤية العقل الغربي للاشياء على الناس. ولم يعلم هؤلاء المنبطحون ان الحضارة الاسلامية روحية ومادية تعمل على كل الواجهات، فهي اخلاقية وانسانية وصناعية واجتماعية ومحققة للعدل الانساني. ولقد استشاطت القوى الاستعمارية غيظا من هذه الرؤية، ولذلك تحركت من اجل استعباد الناس، واذلالهم ونهب خيرات بلدانهم وجعلهم خداما يخدمون مصالح هذه القوة الاستكبارية. فلقد جاء الاسلام لتحرير الانسان من الخرافات والاوهام والتصورات الفاسدة، والعبودية المتعددة لغير الله. اما الحركات الاستعمارية الغربية فقد حضرت لتستعبد الاحرار، وتهيمن على خيرات الضعفاء. بينما الفتوحات الاسلامية كانت تحرر العبيد وتشيد العمران. ومن هنا يمكن الاقرار مع التأكيد ان الاسلام هو المنهج البديل لانحرافات الثقافة الغربية. ولكن ما الحل؟ وكيف يتحقق؟

فالاسلام لابد له من قوم يحملونه. ويعيشونه، ويعيشون له ويطبقونه في واقع حياتهم. ويقدمونه للاخر في صورة تطبيقية حسية، من خلال قدوة واقعية ملموسة مع تسلحهم بالعلم والمعرفة والتجربة في كل مجالات الحياة.الفكر الغربي بين المأزق والافلاس.
بقلم ابراهيم الناية.

قد يستهجن البعض ويتساءل: كيف يمكن الحديث عن افلاس الثقافة الغربية والغرب يعيش تقدما تقنيا هائلا وحالة من رغد العيش التي يدعمها التنظيم الاداري المنضبط وفق الضوابط القانونية التي شرعها الانسان لنفسه.؟ واي نمط فكري من الثقافة الغربية يتعلق به حديثنا. هل الجانب العلمي ام اللون الآخر المدعو الآداب والعلوم الانسانية.؟ ثم الا يعد الحديث عن افلاس ثقافة الغرب محض افتراء.؟ ولكن الا يحق لنا التساؤل عن ما خلفته تلك المنظومة الفكرية من اثار على التماسك الاجتماعي والاخلاقي للمجتمع الذي يعد الاخلال به بداية الانهيار؟ . ثم ما هو الخيط الناظم بين كل ألوان أو انماط الثقافة الغربية المتعلقة بالجوانب الفكرية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية للانسان في الغرب.؟ واذا كان الغرب يتمتع بكثير من الفضائل عكس ما ندعي ويتمتع افراده بالحضن الدافئ فكيف نفسر فرار كثير من عناصره الى الاسلام واعتناقه؟

هذه اسئلة سنحاول التعامل معها ومع غيرها. ولكن بداية يمكن الاقرار ان هناك قاسما مشتركا بين كل انماط الثقافة الغربية المرتبطة بالعلوم الانسانية او المسماة علوم التغيير الثقافي وهذا القاسم يتجلى في المفاهيم التالية: التطور ، التناقض ،الصراع ، التغير، عدم الثبات، نكران الغيب او المعتقدات ،المادية الحرية. وقد تم توظيف هذه المفاهيم بعضها او جلها في تلك التحولات التي حصلت في الغرب. منذ عصر النهضة الاوروبية وظهور النزعة الإنسانية ،وفلسفة الانوار، والثورة الصناعية والفرنسية. ولكن الغرب ومنذ البداية بدأ يعيش حالة من التململ فالثورة الصناعية كانت هي البداية الفعلية للرأسمالية المتوحشة التي وضعت الحجر الاساس للنظام البنكي الربوي الذي افقر البشرية. ثم ان الثورة الفرنسية رغم مناداتها بالحرية والاخاء والمساواة، تحولت بعد ذلك الى حركة استعمارية احتلالية أذاقت كثيرا من الشعوب المرارة والقتل واستنزفت خيرات اوطانهم. الم يقل احد المفكرين البارزين الذي عاش في الغرب ودرس تحولاته : ” إن الانسان الغربي على مسار قرنين من الزمان اكتسب كل شيء الا نفسه.” للدلالة ان البداية لم تكن سليمة. وهذا هو جذر القضية، فرغم التقدم التقني القائم اليوم في الغرب. وانتشاره على اوسع نطاق. لكن هل حقق انسانية الانسان؟ وما اثره على البناء النفسي للانسان؟ وكيف نفسر ان النمط الفكري الذي ساد في الغرب هو الذي دفع كثيرا من المفكرين الكبار الى الانتحار او الاحالة الى مستشفيات الأمراض العقلية ؟ ألم يتساءل (اليكسيس كارليل) كيف يمكن ان تستمر حضارة تخالف طبيعة خلق الانسان.؟ لكن قد يتساءل المرء عن الاسباب التي ساعدت على تراجع الثقافة الغربية وعدم استمراريتها؟

1 – إن أول اسباب تراجع الثقافة الغربية هو ذلك الصراع الذي حصل بين العقل والكنيسة، فالعقل الانساني كان يدعو الى ان يتحرر الانسان من سلطان الكنيسة المدعمة للاقطاع والظلم والاستبداد، وهنا ترسخ في ذهن الانسان الغربي ان كل ما ينتمي في اصوله الى الإيمان بالغيب ينبغي الانتهاء منه وعدم الاعتراف به نظرا لما خلفته ممارسة الكنيسة من آثار في نفسية الانسان الاوروبي. ولكن المشكل هو ان اوروبا تخلصت من الكنيسة ولكنها عادت الى التراث الاغريقي، ألم يقل الألمان إنهم الورثة الشرعيون للحضارة الاغريقية؟. والغريب ان كبار فلاسفة اليونان يقولون بالثبات والغيب ما عدا هرقليطس. واقروا بالعبودية والطبقية، بقطع النظر أن الفلسفة اليونانية في غالبيتها فلسفة ميتافيزيقية.

2- ولم يكتف الاوروبيون عند هذا الموقف بل تجاوزوه الى مفهوم الانسان ذاته خصوصا بعدما ظهرت الداروينية ،واصبحت تضفي على الانسان طابع الحيوانية. ولذلك قامت الرؤية الغربية للانسان على اشباع الجانب البيولوجي فقط، وكأن الانسان ليس له الا بعد واحد مما جعل (ماركوز) ينتقد هذا التوجه في مؤلف له: ” الانسان ذو البعد الواحد” ، مما سيترتب عن هذه الرؤية ان الغرب انشأ حضارة او تقدما تقنيا أطلق عليه أحد الباحثين حضارة الاشياء.

3- وقد جاءت الفلسفة المادية بكل توجهاتها مكملة وداعمة لنظرية التطور الداروينية حيث تحدثت عن الانسان واسقطت عليه مفاهيم الحيوان والمادة، والادهى من ذلك ان الفلسفة المادية قدمت للناس على انها علم، في حين انها لا تعدو ان تكون نظريات بشرية تصيب وتخطء، وتخضع لأهواء الفلاسفة وظنونهم، ولذلك ينبغي التمييز بين العلم والفلسفة المادية ،ولكن الذي ساعد الفلسفة المادية أن تتبنى هذا الموقف هو ان اوروبا اخذت بالمنهج التجريبي وفصلته عن البعد الالهي واسست تقدمها على هذا المنهج التجريبي المفصول تماما عن كل بعد غيبي.

ان هذه الرؤية المادية هي التي صنعت ذلك الانسان الاناني، الذي لا يعرف الا مصلحته وذاته، وعندما يغادر بلده يتحول الى التدمير والنهب والسيطرة، لانه لم يتلق رؤية تنظر الى الانسان ان له جانبا روحيا آخر ،فضلا عن بعده العقلي والجسدي، ومن هنا نخلص الى القضية التالية: ان معرفة حقيقة الافكار والنظريات يتعين ملاحظة اثارها ونتائجها على نفسية الانسان وكيانه اجمالا. لكن قد نتساءل عن المفاهيم الأساسية التي استند عليها الفكر الغربي في قيامه؟ فبقطع النظر عن قولهم بمادية العالم ،وعدم الاعتراف بتأثير الغيب على حياة الانسان والاقرار بحيوانية الانسان فان الفكر الغربي سيقول بالتطور والتغير في كل شيء فليست هناك اخلاق ثابتة ،وانما تتطور بتطور المجتمعات، كما انه ليست هناك حقيقة موضوعية، وإنما الحقيقة نتاج مجتمعي ،وان لكل مجتمع حقيقة كما يقول مشيل فكو. وعلى هذا الاساس لم يستطع الفكر الغربي ايجاد التوازن بين الثوابت والمتغيرات. فكانت اوروبا في زمن الكنيسة تؤمن بالثبات في كل شيء من اجل تبرير بقاء الظلم والاستبداد وممارسة الاقطاع، ولكن الغرب بداية من عصر النهضة وظهور الداروينية وفلسفة الانوار والفلسفة المادية وكل الفلسفات القائلة بالتطور والتغير انقلب الفكر الغربي وغير التوجه ،واصبح التطور والتغير هو السمة التي تطبع كل شيء في حياة الغرب ولم يعد هناك شيء ثابت يتعلق بالكون والحياة والانسان فليست هناك اخلاق او دين او رؤية عن الله ثابتة، فكل شيء خاضع لمنطق التغير .وهذا الامر مجانب للصواب، فهناك الثابت وهناك المتغير ،ففي النفس البشرية امور ثابتة لا تتغير، وهناك احوال وظروف متغيرة .ولذلك ففي الاسلام استنباط الاحكام المتجددة من الاصول الثابتة وهكذا يهدف الاسلام الى تصحيح ما هو ثابت في النفس البشرية لتتغير نظرة الانسان الى الاشياء. “ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم”.

ومن المفاهيم الفكرية التي قامت عليها الثقافة الغربية، وهو ذلك الصراع بين الانسان والغيب. كما ورثه الغرب عن اليونان. الم يقل أبيقور: إن الالهة خلقوا العالم ولكن عليهم أن لا يتدخلوا في حياة الناس. فهذا الصراع القائم اليوم عند الغرب بين الايمان ورفضه له جذور تاريخية، علما ان سلوكات الكنيسة غذت ذلك الصراع اضافة الى ظهور موجات الحادية عند بعض فلاسفة الغرب كنيتشه وسارتر وهايدغر وغيرهم. ومن ثم سعى الانسان في الغرب الى ان يحقق ذاته بمعصية الخالق. وعليه لم يستطع الفكر الغربي ان يحدث الانسجام بين عالم الغيب وعالم الواقع. الذي يعيشه الانسان لأن الإيمان بالله في نظر المنظومة الغربية اصبح عائقا امام البحث العلمي، واستنتجوا هذا الموقف من ممارسة الكنيسة، ولذلك إن مشكلة الغرب هي ان الاوروبيين كانوا يعيشون على مجموعة من المعتقدات يطلقون عليها اسم الدين، ولكن بدون مساهمة في العمل الذي يمكن ان يشارك في التقدم التقني، وبداية من تحولات عصر النهضة اسس الغرب تقدما تقنيا بلا ايمان. وعدم الاوروبيين بالغيب هو الذي جعلهم لا يستطيعون تحقيق الانسجام بين الدنيا والآخرة في كيان الانسان. وعلى هذا الاساس عطلت اوروبا فاعلية قدر الله واستبدلته بفاعلية الانسان كما فعل ذلك المعتزلة والفلاسفة في العالم الاسلامي قديما. ولكن في التصور الاسلامي لا تناقض بين فاعلية الانسان وفاعلية قدر الله، والانسان المسلم امن بفاعلية الإنسان المؤسسة على فاعلية قدر الله. فلا تناقض بينهما ما دامت فاعلية الانسان قائمة على فاعلية قدر الله. ولذلك انزل الله القرآن وجعل تحقيقه في الواقع بالجهد الذي يبذله الانسان.

لكن ما هي اثار هذا الانحراف الفكري على البناء الاجتماعي والنفسي للانسان الغربي؟ اي ما هي النتائج المترتبة عن هذا المنحى الفكري وبالاحرى ان هناك مدارس فكرية حملت لواء التغيير كالماركسية واتباع نيتشه، والفرويدية والدوركايمية والوجودية… الى غير ذلك من الاتجاهات المتعددة التي قدمت تصورا جديدا عن الانسان والحياة.؟ فلقد اتجهت كل هذه التصورات الى وجهة واحدة وهي احداث القطيعة مع الغيب ،وكل ما له علاقة بالمعتقدات والاخلاق الموروثة، ودعت الى ما يطلقون عليه اسم الحرية التي لا حدود لها، وهكذا تفككت الاسر وشاع الشذوذ، بل ذهبت بعض التصورات الى الخروج عن منطق الحياة البشرية. مما فتح المجال الى ظهور عبدة الشياطين وجماعات تمارس افعال قوم لوط، وفي هذا المناخ انتشرت موجات إلحادية مدمرة وساد الشك في المجتمع الغربي وشاعت الحيرة والقلق والاضطراب النفسي مما ادى الى انتشار ظاهرة الانتحار بصورة مخيفة ،وطغت على حياة المجتمع الغربي العقلية الأنانية المفرطة وعبادة الاشياء والاستخفاف بالمعتقدات ،ويدلل انتشار هذه الظواهر مدى الانحراف الفكري والثقافي داخل المجتمع الغربي، ومن ثم عاش الناس في التيه والضياع في الغرب، ولكن قوى الشر المتحكمة في المجتمع الغربي لا تترك له فرصة ليستفيق من الدوامة التي يدور فيها، ولكن الذي يتمادى في العجرفة ستكون نهايته مؤلمة نتيجة ما يمارسه من ظلم، لان هذه الرؤية السائدة في الغرب لا يمكن ان تستمر ولذلك فر كثير من افراد هذا المجتمع الى الاسلام لينقذوا انفسهم من من براثن الضياع والحيرة التي تأكل حياتهم في الغرب، وهذا الذي دفع بعض الاوروبيين الى القول ان بوادر الانهيار اصبحت ماثلة للعيان. ومن نتائج الفكر المنحرف ازدواجية المعايير في التعامل مع قضايا الشعوب. فالغرب يدافع عن حرية التعبير عندما يتعلق الامر بالاستخفاف بالمعتقدات الاسلامية. ولكن عندما تمس رموز بعض بلدانهم يتحدثون عن السيادة. وقس على ذلك مسألة حقوق الانسان، واية حقوق يتحدثون عنها.؟!. إن الحقوق التي يتحدثون عنها هي الحقوق التي تسمح بها ثقافتهم. ولقد سبق ان ذكرنا ان من نتائج الثورة الصناعية انتشار الاقتصاد الربوي مما ادى الى انتشار الرأسمالية المتوحشة في مظاهرها الربوية المدمرة. وكان لليهود اليد الطولى في انتشار البنوك الربوية ،الامر الذي جعل الغربيين يتضايقون من سلوكاتهم وممارساتهم المشينة الشيء الذي دفعهم الى البحث عن مخرج للتخلص منهم، رغم أن الصهيونية تفكير غربي خالص. ولذلك وذلك بزرعهم في قلب العالم الاسلامي وتشريد شعب باكمله.

واذا كانت اوروبا تسير الافلاس الفكري والاخلاقي فكيف نفسر تمسك جماعة من ابناء جلدتنا بافكارها ورؤيتها للحياة؟ وكيف تعاملت هذه الجماعة من اتباع الغرب مع الثقافة الاسلامية؟.

لقد ظن هؤلاء الأتباع ان النموذج الغربي هو المنقذ من الضلال ولذلك انصهروا فيه واصبحوا يروجون لكل ما يطرحه وخاصة الجوانب السلبية المؤسفة السالفة الذكر حتى فقدوا ذواتهم ،فقد ترتب اجيال على التبعية للغرب من خلال مناهج التعليم ووسائل الاعلام المأجورة، ومن ثم تمت تنشئة اجيال لا تعرف شيئا عن الاسلام. بل كلما ذكر الاسلام ينتابها التقزز. ولذلك دعا هؤلاء الاتباع الى الانسلاخ من الاسلام. لانه في تقديرهم رجعية وتخلف. بل وسبب تخلف المسلمين هو تمسكهم بالاسلام، ولذلك ينبغي الالتحاق بمصاف الدول الراقية التي هي في الواقع رمز للهيمنة والتسلط. ولذلك يريد هؤلاء الاتباع فرض رؤية العقل الغربي للاشياء على الناس. ولم يعلم هؤلاء المنبطحون ان الحضارة الاسلامية روحية ومادية تعمل على كل الواجهات، فهي اخلاقية وانسانية وصناعية واجتماعية ومحققة للعدل الانساني. ولقد استشاطت القوى الاستعمارية غيظا من هذه الرؤية، ولذلك تحركت من اجل استعباد الناس، واذلالهم ونهب خيرات بلدانهم وجعلهم خداما يخدمون مصالح هذه القوة الاستكبارية. فلقد جاء الاسلام لتحرير الانسان من الخرافات والاوهام والتصورات الفاسدة، والعبودية المتعددة لغير الله. اما الحركات الاستعمارية الغربية فقد حضرت لتستعبد الاحرار، وتهيمن على خيرات الضعفاء. بينما الفتوحات الاسلامية كانت تحرر العبيد وتشيد العمران. ومن هنا يمكن الاقرار مع التأكيد ان الاسلام هو المنهج البديل لانحرافات الثقافة الغربية. ولكن ما الحل؟ وكيف يتحقق؟

فالاسلام لابد له من قوم يحملونه. ويعيشونه، ويعيشون له ويطبقونه في واقع حياتهم. ويقدمونه للاخر في صورة تطبيقية حسية، من خلال قدوة واقعية ملموسة مع تسلحهم بالعلم والمعرفة والتجربة في كل مجالات الحياة.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
14°
19°
السبت
19°
أحد
19°
الإثنين
20°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة