في حولية خطة التحجير.. من خطبة الجمعة إلى خطاب الدولة

15 يوليو 2025 15:16

هوية بريس – أبو الفضل الزموري*

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وبعد؛

قبلَ عام أقدم القائمون على الشأن الديني بالمغرب على تنفيذ سياسة جريئة وغير مسبوقة تحت وَسْمِ “خطة تسديد التبليغ“، تتغيىٰ وفق مزاعم أصحابها توحيد خطبة الجمعة للرفع من مستواها وحمايتها من “مزالق” التشدد ومهاوي التسييس والفرقة، وبالتالي الرقيّ بالتربية الإسلامية للمجتمع.

– إلّا أنّ انصرام سنة كاملة عن تنفيذ خطبة الخطبة – الجاهزة، وبعد أن انجلى الغبار عما فوقها وحَسر الماء عما تحتها، فقد تبين أن خطة التوفيق خانها التوفيق، حيث أسفرت عن نتائج في مجملها عكسية ولم تحصد إلا تذمر الخطباء واستياء المصلين، ولم تنجح -للأسف- إلا في النيل من هيبة ومقام منبر الجمعة وأهلها.

وإقامةً لهذا الرأي، وإبراءً للذمة، ومقاربةً لهذه النازلة وآثارها العميقة على واقع ومستقبل التدين في المغرب، نورد قراءة مقتضبة للموضوع -بعد تروٍّ وتدبر- من الزوايا المتداخلة التالية:

– مؤسّساتياً

لم تبلغ جرأة المتغربين والعلمانيين على منبر رسول الله مثل هذه الذِّرْوة إلا في ظل تخاذل العلماء الرسميين وانبطاحهم،
وقد شكل اصطفافهم المريب مع الخطة قطب الرحى في تمريرها والسير بها، على الرغم أن الناس سمعوا من وزير الأوقاف ممثل السلطة التنفيذية ولم يسمعوا من العلماء المُتَحَدَّثِ باسمهم، ولا يزال المغاربة على استغرابهم من علماء الدولة على مختلف مستويات مجالسهم، إذ لاذ جلهم بصمت القبور وخلفوا فراغا شرعيا قاتلا يفترس الناس مما ابتلوا به في دينهم.

– والحالة هذه، وإبراء للذمة، وجب البلاغ للسادة العلماء وهم أهل الاختصاص مؤسساتيا، فإن التحصن بالسكوت لا يبرئ ذمتكم أمام الله وأمام الناس، وإنما هو بالصريح الفصيح وهو كتمانٌ للعلم الذي نُهِيتم عنه، واستغناءٌ بِلُعَاعَة من الدنيا زائلة عما عند رب السماوات والأرض، فاخرجوا رحمكم الله من ريْبكم وتخاذلكم، وقد حال الحول وخان التوفيق الخطة-البدعة، وأعيدوا المنبر إلى أهله، فلا خير في علماء لا يدافعون عن منبر رسول الله، وإلا فأعدوا الحجة والجواب لسؤال رب الأرباب، يوم لا تنفع المناصب والألقاب من الله شيئا.

واعلموا هداكم الله للسداد، أن تأميم خطبة الجمعة لها ما بعدها، وما بعدها أسوء بكثير مما قبلها؛ إذ إنّ تثبيت وتحصين بدعيتها -بإقراركم الضمني- يفتح المجال لتوقيف القلة القليلة من الخطباء الراسخين، إذ لا يتطلب الأمر لتنفيذ الخطة-البديلة إلا تحميل وطبع وتلاوة صفحات مرسلة من الرباط …

سياسيا

أمام إفلاس المنابر الحزبية والنقابية لافتقادها المصداقية والتأثير، إذ عرتها سنون متطاولة من سوء التدبير في كافة القطاعات والمستويات، ارتأت الدولة استغلال منبر الجمعة، على قدسيته وجلالة أمره، باعتباره آخر قناة مباشرة و”مضمونة”، لتمرير خطاب، ظاهره ديني، وباطنه يمثل وجهة النظر الرسمية للدولة، بنص يصاغ مركزيا، وبإنشاء شبه إداري وتبويبات جافة على شاكلة المذكرات المصلحية، يأبى إلا أن يذكر المصلين في جل ثناياه، أن خطة التسديد الفريدة جاءت ـ ضمنياـ لتقوم اعوجاجهم -خطباء ومخاطبين- بعد أن كانوا في ضلال مبين.

من هنا يبرز السؤال: أليس من التهور السياسي في تدبير “الحقل” الديني التجرؤ على مصادرة منبر سيد المرسلين وجعله بوقا مستباحا للدولة؟

ألا يُفترض في هؤلاء الذين تولوا كبر هذه البدعة، المستأمنين على تدين المغاربة، أن يعوا ويعلموا أنهم مَسُّوا أشرف وأعز ما عند المسلم وهو معينه الأسبوعي في دينه؟ فإذا كانت خطبة الجمعة قائمة على إصلاح الدولة والمجتمع، فكيف لخطاب الدولة الذي يتم تمريره عبر الخطة-البدعة، أن يُقدِم على مجابهة المخالفات الشرعية التي تقع فيها الدولة ذاتها كالربا والقمار والخمور وفجور موازين وغيرها؟ أم ستكتفي الخطبة الموجهة بالأمر دون النهي والترغيب دون الترهيب، مكتفية بِلَيِّ أعناق النصوص، ومقتفية بذلك سنن المغضوب عليهم من أهل الكتاب، الذين يومنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض…

إعلاميا

لقد رافق تمريرَ الخطة-البدعة، انتشارٌ كثيف وتركيز منظم وغير معهود للذباب الإلكتروني المنافح عليها على مختلف منصات وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تهاجم أسرابه وبلا هوادة، وبخطاب بلطجي جاهز-موجه، كل من يستنكر المساس بأمر من الدين معروف ومورث روحي حيوي في أسبوع كل مؤمن. كما تم تسويق الخطة المذكورة إعلاميا من طرف مبتدعيها بكيفية ناعمة متدرجة، هاجسها تجنب أي ارتجاج في “الأمن الروحي للمغاربة” من المؤتمنين زورا على حفظ دينهم وعقيدتهم من كل ما قد يحاك ضدهم.

أما زمرة أشباه الإعلاميين أتباع كل ناعق فقد انبروا على قلب رجل واحد لتنفيذ التعليمات وتثبيتها وكأن الأمر وحي نزل للتَّوِّ غضا طريا من السماء، مما يَنِمُّ على أن الأمرَ دُبِّرَ بِلَيْل، على شاكلة ما درج عليه -قديما وحديثا- المغضوب عليهم من أعداء الدين.

أخلاقيا

إن الحديث عن الأمن الروحي للمسلمين المغاربة يقتضي تجنب العبث بِصِلاتهم الروحية مع منابع التدين والاتعاظ، والتي تشكل خطبة وصلاة الجمعة إحدى روافدها الأساسية، ومقاومة تنفيذ التعليمات المشبوهة للمنظمات الدولية الماسونية والمؤسسات المالية المقرضة…

ويكفي أن نعلم أن بدعة فرض تعميم خطبة الجمعة، تحت طائلة قطع الأرزاق – بالتوقيف والحرمان من مقابل زهيد للفئة المستضعفة من الأئمة الخطباء، قد أدى إلى إلحاق أشد الضرر بعلاقة المصلين بخطبائهم، حيث أصبحت جٌمُعاتهم شكلا بدون مضمون وجسدا بلا روح. فبعد أن دَرَجَ عباد الله على التلقي والتمَاهِي مع خطبائهم لسنين وعقود، جاءهم على حين غرة من يجفف آخر منابع تدينهم ليقول لهم كفى، لقد عطلنا وظيفة الخطيب، وجئناكم بخبر يقين يسدد اعوجاجكم، ومن الآن فصاعدا، لا نريكم إلا ما نرى، ونحن من نحدد -من الآن فصاعدا- ما ينبغي أن يقال ومتى يقال وكيف يقال…

وبناء على تجربة شخصية سابقة ولسنين، فإنني أؤكد أن الذين أمضوا هذا الأمر، يجهلون جهلا مطبقا طبيعة وعمق علاقة الخطيب ومخاطبيه ومحبيه، وما تم الإقدام عليه يعد: إهانةً بليغة لمنزلة الخطيب وسطواً موصوفاً على رسالته وشططاً في استعمال السلطة المادية، واستغلالاً غير أخلاقي لحاجة السادة الخطباء نوابِ ومؤتمني أمير المؤمنين على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مع العلم أن إصدار توجيهات ودوريات من قبيل “دليل الإمام والخطيب” للرجوع إليها عند الاختلاف، كانت ولا تزال كافية وتفي بالغرض في تأطير الخطبة وتحصين الخطباء والمخاطبين.

وفي الختام، أجدد دعائي ودعوتي لأهل العلم والصلاح، أن يجهروا بشهادة الحق ويهُبوا لإنقاذ واسترداد منبر رسول الله من أيدي العابثين، ويذودوا عن حياضه مما يحاك ضده، فقد تبين عوَر وبطلان الخطة -البدعة كما انجلى للبادي والعادي سكوت-تواطؤ علماء المجالس والمناصب.

وإني أُشهدكم أني بريء مما شُرع دون سند شرعي، وأبرأ إلى الله من البدعة بعد السنة ومن الحور بعد الكور، {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله}.

والله المستعان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الفقير إلى عفو بارئه، الخطيب السابق.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
9°
19°
أحد
19°
الإثنين
20°
الثلاثاء
18°
الأربعاء

كاريكاتير

حديث الصورة