“فقه المفاوضات” وأثره في حفظ مصالح الأنام

هوية بريس – د.أيمن المزكلدي الشرعي
بسم الله الرحمن الرحيم
كثر الحديث هذه الأيام عن جدوى المفاوضات وكيفية إجرائها، فأحببت أن أقيد لنفسي وإخواني من طلاب الحق نبذة مختصرة عن قواعد هذا الباب وضوابطه وأثره في حفظ مصالح المسلمين، وقد نثرته في معاقد ثلاثة كالآتي:
أولا: قواعد التفاوض الشرعي
1. إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما، فحُرمة الدماء أعظم من حُرمة الكعبة وبين المقدس، فلو قُدِّر عقلا تعارض هدم الكعبة مع قتل المسلم؛ ارتكب الأخف منهما حُرمة؛ للإبقاء على أعظمهما.
2. النظر في مآلات الأمور، سواء كان مأذونا فيها شرعا أو منهيا عنها، واشترط الشاطبي للناظر في مآلات الأفعال الرسوخ في العلم، ولا يكون هذا إلا بمشورة العلماء الراسخين.
3. تصرف الولاة منوط بالمصلحة ومبني على مقتضى الأصلح في التدبير، فعلى الولاة ونوابهم أثناء التفاوضِ التصرفُ بما هو أصلح للمُولَى عليه؛ درءا للضرر والفساد، وجلبا للنفع والرشاد، وصيانة لحقوق الأفراد.
4. ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد، سواء كانت شرطا أو سببا، ووسيلةُ كل مقصد بحسبه، ولا تبرأ الذمة إلا بتحصيله.
ثانيا: ضوابط المُفاوِض
1. إخلاص النية لله تعالى.
2. جميل الظن بالله تعالى وحسن التوكل عليه.
3. أهلية المفاوض، وعلمه بفقه المفاوضات، وأساليبها وحسن تدبيرها.
4. التحلي بالصبر والحكمة، واستخدام الأسلوب الأحسن، واجتناب التعنت والاصطدام؛ حتى لا يتسبب المفاوض في ضرر بمن يُمثّله.
5. نبذ التعصب لوجهات النظر الشخصية، والمصالح الحزبية الضيقة، وتقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة الجزئية.
6. أمن المفاوض وحصانته الدبلوماسية أثناء التفاوضِ.
ثالثا: ضوابط المفاوضات
1. إعمال فقه التوازن، والموازنة بين المصالح والمفاسد فعلا وتركا، جمعا وترجيحا، وهو فقه دقيق، ومسلك عظيم من مسالك التأصيل والترجيح، يقوم على الوعي العميق بالنصوص الشرعية، وفهم الواقع الذي تقتضيه ظروف التفاوض، ومن قواعد هذا الفقه:
أ) – لا ضرر ولا ضرار، وهي القاعدة الأم.
ب) – منع الفعل الضار في جميع صوره قبل وقوعه احترازا، ومعالجة أثره بعد وقوعه إزالةً ورفعا.
ج) – درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
د) – تقديم المصلحة الغالبة على المفسدة النادرة، ولا تُترك لها.
هـ) – إذا اتحد نوع المصلحة والمفسدة كان التفاوت بالغلبة أو بالقلة والكثرة.
و) – إذا كانت المصلحة أعظم من المفسدة حصّلنا المصلحة مع التزام المفسدة.
ز) – إن استوت المصالح والمفاسد يتم الترجيح بينهما، فقد يتخير منهما، وقد يتوقف فيهما، خصوصا أنه قد يقع اختلاف في تفاوت المفاسد.
2. خلو المفاوضات من شروط فاسدة تُستباح فيها الشخصية الإسلامية، أو يشترط فيها شرط يؤدي إلى نتائج سلبية على المجتمع الإسلامي، أو تفرّقِ الصف المسلم وتمزق وحدته؛ لأن المفاوضات مبنية على رعاية المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها قدر الوسع والطاقة، فلا يتنازل المفاوضون عن مصلحة إلاوقد حققوا ما هو أفضل منها، ولا يقبلون بمفسدة إلا وقد دفعوا ما هو شر منها.
3. التشاور من حقوق الأطراف المتفاوضة، فلا يمكن لأحد أعضاء الفريق التفاوضي أن يقطع برأيه أو ينفرد به إلا بعد مشورة أهل المعرفة والحكمة والخبرة؛ حفظا للمجتمع من القرارات الخاطئة، ومعلوم أن الشورى واجبة على ولي الأمركما ذهب إليه الجصاص وابن الخطيب وابن جرير والطبري وابن تيمية وابن كثير وغيرهم، بل واعتبر بعضهم عدم مشورته سببا في عزله؛ كما ذكره القرطبي وابن تيميةوغيرهما، وإن جنح الشافعي وابن حزم والغزالي وابن القيم وغيرهم إلى ندب ذلك في حقه، والراجح وجوبه.
4. مراعاة الأعراف الدولية مالم تخالف نصا قطعيا؛ بناء على اعتبارِ عادات الأمة الحسنة، وما تتواطأ عليه من الأمور النافعة.
ومن هنا تبرز أهمية التفاوض وأثره في تحقيق مقاصد الشريعة وضرورياتها، إذ جميع القواعد الفقهية المتعلقة برفع الحرج ودرء المفاسد والإضرار عن الناس؛تعدّ أساسا للأحكام الفقهية في مسألة المفاوضات، كما أن للمفاوضات علاقة وثيقة بمصالح البشر التي تحافظ عليها الشريعة الإسلامية على اختلاف تصانيفها ومراتبها، كما أن لها مقاصد خاصة في التعاون على البر، والإصلاح بين المتخاصمين، وترسيخ العدل، وإحقاق الحق، والسلامة في الدين والنفس والعقل والمال والعرض؛ فعلى العقلاء انتهاجه، وترسم خطاه، وفق الضوابط الشرعية، والقواعد المرعية، والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكتب: الدكتور أيمن المزكلدي الشرعي، جامعا شتاته، ملخصا أفكاره، من أطروحة دكتوراه في الفقه المقارن بعنوان: “المفاوضات: مفهومها وضوابطها في ضوء فقه السياسة الشرعية” للدكتور عبد الله سعيد ويسي، سنة 2022م؛ بتصرف وزيادة، وذلك ضحى يوم الخميس: 28 محرم 1447 هجرية، الموافق 24 يوليوز 2025م؛ بتطوان المحروسة، شمالي المغرب الأقصى.



