“ولا يحض على طعام المسكين”: بين ذم القرآن وتجاهل مأساة غزة

27 يوليو 2025 09:45

“ولا يحض على طعام المسكين”: بين ذم القرآن وتجاهل مأساة غزة

هوية بريس – عبد العلي حمداوي الزمزامي

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله و أصحابه أجماعين وبعد:

عندما نفتح كتاب الله جل وعلا، ونقرأ قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ [سورة الماعون: 3]، فإننا لا نقرأ مجرد آية، بل نواجه مرآة تعكس حالًا من الانحدار والانفلات الأخلاقي، والتجرد من الرحمة، وقد يصل الحال إلى حد التكذيب العملي بالدين. الله جلّ وعلا، في سورة الماعون يقول: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)﴾، فيصف جل قدره من يكذب بالدين بصفتين قبيحتين: (يدع التيم) و (لايحض على طعام المسكين) أي أنه لا يعطف على اليتيم، ولا يحث على إطعام المسكين. ليس فقط أنه لا يُطعم، بل لا يُشجع، ولا يُحرّك ساكنًا، ولا يُبادر، ولا يُنكر الجوع حين يراه يفتك بالبشر أيا كان هذا البشر.

فهل بعد هذا الوصف، يبقى لنا عذر في السكوت عن مأساة غزة؟ غزة التي يُحاصر أهلها، ويُمنعون من الغذاء والدواء، ويُقطع عنهم الماء والكهرباء، وتُغلق في وجوههم أبواب الحياة، في ظل صمت عالم منافق، وتواطؤ وتخاذل من أبناء الجلدة، بل وتبرير من بعض الأقلام والجهات التي تعيش على مآسي الناس.

﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ قال في تفسيرها الإمام الطبري –رحمه الله تعالى-: أي “ولا يحثّ غيره على إطعام المحتاج من الطعام”، وقال الشيخ السعدي –رحمه الله رحمة واسعة-: “…ومن باب أولى أنه بنفسه لا يطعم المسكين”، وقال القرطبي: “لا يأمر به، من أجل بخله وتكذيبه بالجزاء”. ثم يأتي قول الشيخ محمد المكي الناصري، ليزيد الأمر وضوحًا، فيقول: “إنه لا يبعث أهله على بذل طعام المسكين، وجعل علم التكذيب بالجزاء منع المعروف والإقدام على إيذاء الضعيف، فلو آمن بالجزاء وأيقن بالوعيد، لخشي الله تعالى وعقابه ولم يقدم على ذلك، فحين أقدم عليه: علم أنه مكذب، فما أشدّه من كلام، وما أخوفه من مقام”.

فإذا كان هذا ما وُعد به من لا يحث غيره على إطعام المحتاج فكيف بمن يمنع عنه الطعام؟ وكيف بمن يشارك في الحصار؟ وكيف بمن يبرر التجويع؟ أليس هؤلاء أولى بالذم؟ أليسوا أقرب إلى من وصفهم الله بأنهم يكذبون بالدين؟

غزة اليوم ليست مجرد أرض تُقصف، بل هي مسكينٌ يُجَوَّع عمدًا، هي صورة حية للآية الكريمة، التي لا تزال تتلى، بينما يُغلق العالم عينيه عن معناها الذي لا ينكره عاقل فكيف إذا كان من غلق بصره وبصيرته مسلما مؤمنا بكتاب ربه جلت قدرته، إنها الغثائية في أوضح صورها، «وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ» كما أخبر سيد المرسلين –صلى الله عليه وسلم-.

وبين من ذمهم الله في الآية وبين من ساهموا فيما وصل إليه الحال في غزة وجه من الشبه واضح، صارخ، لا يُنكره إلا من أعمى الله بصيرته وبصره، فتأمل:

-من ذمه الله في الآية لا يحض على إطعام المساكين، ومن يرضى تجويع غزة يمنع عنهم الغذاء؛

-من ذمه الله في الآية منعدمة فيه الرحمة، ومن يرضى تجويع غزة مغيبة فيه الرحمة؛

-من ذمه الله في الآية مكذب بالدين، ومن يرضى تجويع غزة متجاهل لتعاليم الدين؛

-من ذمه الله في الآية لا يطعم ولا يشجع على الإطعام، ومن يرضى تجويع غزة يشارك في الحصار أو يصمت عنه.

فالله جلت قدرته لم يذم في كتابه من لا يُطعم الطعام فط، بل من لا يُحَضّ على الإطعام. فكيف يا عباد الله بمن يمنع الطعام؟ وكيف بمن يشارك في حصار شعب بأكمله؟ إن من يرضى بتجويع أهل غزة، أو يصمت عن ذلك، أو يبرره، يقع في دائرة الذم الإلهي القرآني، ويشبه حاله لا محالة من وصفهم الله بأنهم يكذبون بالدين.

الآية الكريمة دعوة للضمائر أن تستيقض، وللقلوب أن ترق وتحن، وللألسنة أن تحض، وللأيدي أن تمتد بالعون. غزة ليست قضية فرد، ولا قضية جماعة أو جهة معينة، غزة اختبار أخلاقي، غزة امتحان إيماني، لكل من يقرأ قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾، فهل ننجح في هذا الامتحان؟ أم نُكتَب في سجل من كذبوا بالدين؟

﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
10°
19°
أحد
19°
الإثنين
20°
الثلاثاء
19°
الأربعاء

كاريكاتير

حديث الصورة