في الحاجة إلى براديغم ثقافي بديل

هوية بريس – عبد الاله دحمان*
هذه ليست دعوة شوفينية، وليست نزعة حالمة ، بل هي قناعة نابعة من التحولات الجارية اليوم في الكون وفي محيط الانسان ، نحن نعيش مأزق انساني معقد نتيجة التحولات الجذرية التي نعيشها ، جراء التحول الرقمي وكفرة الذكاء الاصطناعي ، مما يستلزم تفكيك المأزق والبحث عن أفق بديل للعيش المشترك . فالثقافة اعيش زمن التشظي العنيد . ولم تعد الثقافة ذلك المجال المتماسك الذي ينتج المعنى ويوجه الوعي، كما كانت تصور في مشاريع “التنوير ” “والنهضة ” أو في سرديات الهوية الوطنية. لقد أصابها ما أصاب باقي الحقول من اهتزاز، فتقلص دورها التوجيهي، وأفرغت من مضم نها القيمي ، وتحولت إلى فضاء استهلاك وترفيه، وانخراط عن اصرار في تسطيح الوعي ،أكثر منها أداة تفكير وتحرير.
في هذا السياق، تطرح اللحظة الراهنة سؤال الحاجة إلى براديغم ثقافي جديد يعيد للثقافة قدرتها على مساءلة الواقع وتحرير الإنسان من قوالب الاستلاب الرمزي والمعرفي ، بل وحتى من الاستصنام الثقافي .
يرى بعض علماء الانتربولجيا ، أن مأزق النموذج الثقافي التقليدي ، مرده الى ان أغلب التصورات الثقافية في العالم العربي وفي العالم عمومًا تأسست على أنساق قديمة . فهي إما بنيت على النموذج التنويري العقلاني، الذي رأى في الثقافة مشروعًا لقيادة التقدم والتحرر من الجهل والتقليد.
أو على النموذج الهوياتي المقاوم، الذي رأى فيها جدارا للدفاع عن الذات الجمعية في وجه الاستعمار والغزو الرمزي.
لكن هذين النموذجين معًا اصطدما بحدود سياقية وتاريخية . كيف ذلك ؟ التنوير فشل حين لم يصغ لتحولات المجتمع ولم يدرك التعقيد الوجداني والروحي في الإنسان العربي.
أما الهوياتية فتحولت من مقاومة وفعل ممانع إلى انكفاء على الذات وانغلاق، ومن تحصين الذات إلى تقديس لما هو ساكن وموروث.
يزداد التعقيد في النسق الثقافي في ظل الثورة الرقمية، وعولمة الرموز، وانهيار الحدود بين الثقافات، أصبحت منظومة الثقافة التقليدية عاجزة عن تفسير الذات أو الحوار مع الآخر، بل عجزت على استيعاب مجتمعاتها .
ونزعت الدول الى اعتماد الثقافة كمنتج استهلاكي ، بحيث لم تستبدل فقط، بل تم تسليعها. فقد أصبحت اليوم تنتج وفق منطق السوق، تستهلك كما تستهلك الموضة والمأكولات، وتقاس قيمتها بعدد المشاهدات والتفاعلات والادسنس.
وحدث تحول جوهري في طبيعة الفاعل الثقافي ومهامه المحتمعية، بل توارى لصالح المؤثر الثقافي عبر الوسائط الاجتماعية، فتحولت الرموز الثقافية إلى علامات تجارية، وغدا الفنان أو الكاتب خاضعا لمنطق الشهرة والانتشار، لا لمنطق الفكرة والرؤية.
هذه التحولات تنذر بخطر زوال المعنى من الفعل الثقافي، وتحوله إلى فرجة عابرة تخدر الوعي بدل أن توقظه.
هذه الوضعية المركبة، تستدعي وبعجل الاتجاه نحو براديغم ثقافي بديل ، لأن المشهد الثقافي المعقد، لم يعد كافيا أن نصلح نموذجه القديم، بل نحن بحاجة إلى براديغم ثقافي جديد يتأسس على مفاهيم مختلفة جذريا . تجعل من الثقافة فعلا نقديا . أي أن نعمل على استعادة الثقافة لدورها بوصفها ممارسة نقدية تزعج السائد، لا تروج له. من خلال نقد الذات، نقد المجتمع، نقد السلطة، ونقد البنية الرمزية ذاتها. ولا يكتمل هذا المسعى الا بالاعتراف بالتعدد والاختلاف وأن تتخلص الثقافة من وهم النقاء أو التفوق، وتعترف بأنها فضاء مفتوح للآخر، قائم على التفاعل لا على الإقصاء، وعلى الترجمة لا على الانغلاق .
ان الدعوة الى براديغم ثقافي جديد ، هي دعوة إلى استعادة الإنسان فالثقافة ليست ترفا للنخب، بل حاجة وجودية لكل فرد. وعلى البراديغم الجديد أن يربط الفعل الثقافي بالكرامة الإنسانية، ويجعله فعلا تحرريا يعيد الإنسان إلى مركز المعنى ، من خلال الوعي بروح العصر . وهو نا يقتضي مصالحة واعية مع التكنولوجيا دون الخضوع لها . دون السقوط في جدلية “الثقافة الأصيلة” و”الرقمنة المفسدة”، وذلك بإنتاج ثقافة رقمية ناقدة، تستخدم التكنولوجيا لا كأداة هيمنة، بل كوسيلة للتواصل والمعرفة والتحرر.
وعموما فإن أخطر ما يهدد الثقافة ليس الرقابة ولا السلطة فقط، بل تقديسها، حين تتحول إلى طقس بلا روح، أو شعار بلا فاعلية. نحن اليوم أمام تحدٍّ مصيري ، إما أن نواصل اجترار أنماط ثقافية ميتة لم تعد تحاكي واقعنا، أو ننخرط في مغامرة بناء براديغم ثقافي جديد، قادر على فهم عصر ما بعد الحداثة، وما بعد العولمة، وما بعد الحقيقة.
الثقافة، في معناها العميق، ليست تكرارا للذاكرة، بل بناء دائم للمعنى. وبراديغم المعنى الجديد يبدأ من الاعتراف بأن السؤال الثقافي لم يحسم بعد، وأن ما نحتاجه ليس أجوبة جاهزة، بل شجاعة طرح الأسئلة الصعبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مختص في السياسات الثقافية.



