متى يستيقظ “فرسان الأمة”؟!

هوية بريس – إحسان الفقيه
إذا كان “فُرسان الهيكل” قد استثمروا “الثقة” ليبنوا أول نظام مالي عابر للحدود، وإذا كانت هولندا قد سبقت بإنشاء بنك أمستردام، والسويد بابتكار أول بنك مركزي وطني، وإنجلترا بتأسيس النموذج الحديث…
فأين كانت الأمة الإسلامية التي وضعت للعالم أرقى أنظمة الوقف وبيت المال والحسبة والزكاة؟
لقد تركنا الريادة ونحن من قدّم للعالم معايير العدالة المالية والاقتصاد الأخلاقي منذ زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه…
لكن حين غفونا، نهض الغرب، فأمسك بمفاصل التجارة، ثم بالمال، ثم بالقرار السياسي والعسكري.
أصل الحكاية:
1. حين تحوّلت سيوفهم إلى أقلام ائتمان… فرسان الهيكل:
في القرن الثاني عشر، لم يكتفِ فرسان الهيكل بدورهم العسكري، بل أسّسوا منظومة مالية مبتكرة.
فقد كان الحاج أو التاجر يُودِعُ أمواله في قلعة من قلاعهم في أوروبا، ثم يستلم وثيقة ائتمان تسمح له بسحب المبلغ ذاته في القدس أو أنطاكية…
هذه الرسائل الائتمانية كانت أشبه بالشيكات المعاصرة، وأرست مبدأ أن “الثقة المؤسسية” قد تُغني عن الذهب والفضة في المعاملات ..
بل وأصبح توقيعهم معادلاً لقيمة المعدن النفيس، حتى أن الملوك أنفسهم أودعوا ثرواتهم لديهم، وهو ما جعل المؤرخين يعتبرونهم أول من وضع أساس المصرفية العابرة للحدود.
2. ولادة “الثقة المؤسسية” … بنك أمستردام (1609):
مع بداية القرن السابع عشر، أنشأت مدينة أمستردام بنكها الشهير Wisselbank عام 1609…
هذا البنك أتاح تسوية الحسابات بين التجار دون الحاجة لنقل الذهب، مما ساعد على جعل “الغيلدر” الهولندي عملة مرجعية في أوروبا…
كان بذلك أول صورة شبه متكاملة لبنك مركزي في الأداء والوظيفة …
3. بنك السويد المركزي (1668) الأقدم في التاريخ:
بعد انهيار بنك ستوكهولم، أسّس البرلمان السويدي عام 1668 Sveriges Riksbank، ليكون أول بنك مركزي رسمي في العالم بإشراف حكومي مباشر، هدفه تمويل الدولة وتنظيم النظام النقدي.
وهو ما زال قائمًا حتى اليوم، كأقدم بنك مركزي في العالم على قيد الحياة …
4. النموذج المتكامل للبنوك المركزية الحديثة… بنك إنجلترا (1694):
عام 1694، وُلد بنك إنجلترا بميثاق ملكي لتغطية نفقات الحرب مع فرنسا…
جمع في البداية 1.2 مليون جنيه إسترليني، استخدم نصفها تقريبًا في إعادة بناء الأسطول البحري البريطاني….
كان هذا البنك أوّل من أسّس لنظام “الاحتياطي الجزئي” وطباعة النقود لتمويل الدولة، ومنه انبثقت الفكرة الحديثة للبنوك المركزية التي تتحكم في النقد والسياسة المالية …
– غير أن الحقيقة التي كثيرًا ما تُغفل أن المسلمين سبقوا الغرب في وضع أُطر مالية مؤسسية ذات بُعد مركزي وروحي.
فقد أسّس الخلفاء الراشدون بيت المال ليكون خزانة الأمة، لا خزينة السلطان، يوزّع الموارد وفق قواعد العدالة الشرعية.
وكان أمير المؤمنين “عمر بن الخطاب” رضي الله عنه أول من نظّم سجلات العطاء، وأدخل نظام الدواوين بما يشبه موازنات الدول الحديثة.
وفي العصر الأموي ثم العباسي، ظهرت الصكوك المالية كأداة لتسهيل المعاملات التجارية، أشبه بالكمبيالات المعاصرة، وكانت متداولة بين التجار المسلمين في بغداد وقرطبة والقاهرة، بحيث يُكتب فيها أمر دفع مؤجل يضمنه التاجر أو بيت المال، فيُعفى التجار من حمل النقود المعدنية في رحلاتهم…
– كما أنّ نظام الوقف كان مؤسسة مالية عابرة للأجيال، تُموّل العلم والطب والبنية التحتية من دون أن تُرهق ميزانية الدولة.
هذه النماذج الإسلامية لم تكن مجرد خدمات مصرفية، بل كانت مُشبّعة بروح التكافل والأخلاق، وهو ما جعل الاقتصاد الإسلامي يومها ركيزة حضارية، في وقت لم يكن الغرب قد عرف بعد غير المقايضة أو الربا الفاحش.
هذه المقالة العاجلة ليست سردًا لأحداث تاريخية بقدر ما هي مرآة تُظهر الفجوة بين ما كنا عليه وما صرنا إليه…
لقد امتلك الغرب ناصية الاقتصاد حين التقط الخيط من فرسان الهيكل، بينما نحن تركنا إرث بيت المال والوقف ليذبل.
فمتى يكون للمسلمين “بنك مركزي” جامع، يُكرّس موارده لا لخدمة الديون الأجنبية بل لبناء الأمة ابتداء من قُرانا وبلادنا ونواحينا؟!
متى نرى “فرسانًا” جُددا يكتبون للأمة عهدًا ماليًا جديدًا بأقلام الاقتصاد لا بسيوف المُتناحرين من أجل وهم؟
* المعركة القادمة ليست على حدود الجغرافيا وحدها، بل على من يملك مفاتيح المال…
فمتى يستيقظ الفرسان؟



