كيف نتعامل مع المحن والمصائب (درس في صبر غزة)

كيف نتعامل مع المحن والمصائب (درس في صبر غزة)
هوية بريس – أحمد الشقيري الديني
كم هي متعددة ومتنوعة الدروس التي قدمتها غزة للعرب والمسلمين وللإنسانية؟!
دروس في الصبر والتحمل، دروس في الجهاد والمقاومة، دروس في الاعتماد على النفس بعد التوكل على الله، دروس في التضامن والتعاون والتكافل..إلخ
ونريد في هذه المقالة أن نلقي الضوء على جانب آخر من هذه الدروس، فهو درس في عقيدة الإيمان بالقدر خيره و شره..
فما يجري اليوم في غزة من ظلم واعتداء وقتل وانتهاك لأبسط حقوق الإنسان قد يدفع البعض للتساؤل عن حكمة القدر الإلهي من كل ما يجري..
معلوم أن هذه الدنيا بنيت على كدر كما يقول العلماء، فقد اختلط حلوها بمرها ونعيمها بشقائها،فهي لا تكاد تستقيم لأحد، والعاقل من يزهد فيها ويطلب المعالي، لكن كيف نتعامل مع محنها ومصائبها إذا نزلت بساحتنا؟!
1) المصائب والمحن إذا لم تقعدك عن طاعة كنت تؤديها من قبل، فاعلم أنها منحة ربانية لا تزيدك إلا قربا من الله إن أنت صبرت على شدتها، أما إذا هي دفعتك لمزيد اجتهاد في الطاعات، فقد انقلبت في حقك نعمة تستوجب شكرا زائدا على الصبر..
2) وإذا أقعدتك المحن والمصائب عن طاعة كنت تؤديها، فإما أن تكون المصيبة في صورة إعاقة أو مرض أضعف قوتك وأقعدك عن القيام بتلك الطاعات، فهي حينئذ مكفرة لذنوب اقترفتها مع بقاء أجر تلك الطاعات التي كنت تؤديها صحيحا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا مرضَ العبدُ أو سافرَ كتبَ لَهُ من العملِ ما كانَ يعملُهُ وَهوَ صحيحٌ مقيمٌ) رواه البخاري..
أما إذا كان قعودك عن الطاعة بسبب غفلة أو احتجاج على القدر الذي أصابك وعدم رضى به جهلا بمقام الألوهية، فأنت حينها في خطر عظيم لقوله تعالى:( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)
فالمصائب والمحن وإن كانت من قدر الله وقضائه، فالعاقل من يحسن التعامل معها لتنقلب في حقه منحا، فيستسلم للقدر بقلبه ويرضى، مع الفرار إلى قدر الأمن والأمان، فيدفع قدر المرض بقدر التداوي، ويدفع قدر الجهل بقدر التعلم، ويدفع قدر الفقر بقدر طلب الرزق، ويدفع قدر الجوع بقدر الشبع، ويدفع قدر الاحتلال بقدر المقاومة ويدفع قدر الفساد والاستبداد بقدر الإصلاح والتغيير..وهكذا يدفع أقدار الله التي تؤلمه بأقدار الله التي تعافيه من تلك الآلام وتناسبه..
فالقاعدة هي أن ما يجري في هذا الكون من خير أو شر كله من خلق الله وقدره كما قال سبحانه ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) فكل شيء مما سواه جل وعز مخلوق مربوب ، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه ، وكل شيء تحت قهره وتسخيره وتدبيره وتقديره .
فنحن نتقلب بين أقدار الله فرارا من الآلام والمصائب والمحن إلى أسباب العافية من ذلك كله..
وهذه الجدلية في حركية الإنسان هي التي تصنع العمران وتبني الحضارة وتؤسس لمستقبل مزدهر أكثر أمنا واستقرارا على مستوى الفرد والأسرة والجماعة..
إنه الصراع بين الحق والباطل، بين الصالحين المصلحين والفاسدين المفسدين، يقول سبحانه ( وَلَوْلَا دفاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).
إنها أيضا سنة الابتلاء التي بها نفهم حكمة القدر في إيجاد الشر والفساد، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:( ليس كل ما قدره الله عز وجل وقضاه في هذا الكون فهو محبوب له، فهناك أقدار يحبها، وهناك أقدار لا يحبها.
فإن قال قائل: لماذا جعلها الله عز وجل وخلقها ما دام أنه لا يحبها؟
فالجواب: ابتلاءً واختباراً ونحن في دار ابتلاء واختبار.
ولهذا ابتلانا الله عز وجل بالسراء والضراء، وابتلانا الله عز وجل بالنعمة والنقمة، وابتلانا الله سبحانه وتعالى بالخير والشر، وابتلانا الله سبحانه وتعالى بالأمر والنهي؛ لينظر من يختار ما يحبه الله، ويبتعد عن ما يبغضه الله عز وجل وينهى عنه) انتهى.
فإذا كان أهل غزة ابتلاهم الله بمكر يهود الذي لا يحبه، فمن حكمته أن يستخرج بذلك القدر ما يدفعه مما يحبه ويرضاه؛ ومما يحبه سبحانه هذه الصور الرائعة في مقاومة العدو واسترخاص النفس والمال في سبيل إعلاء كلمة الله وتحقيق وعيده لليهود المذكور في قوله تعالى ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۗ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ ۖ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)
كما أنه سبحانه من ثنايا هذا القدر المؤلم يخرج قدر آخر يحبه ويرضاه وهو إحياء هذه الأمة بروح الجهاد التي تسري في جسد أنهكه الفساد والاستبداد..
وقد ابتلانا الله نحن بقدر أهلنا في غزة أننصرهم أم نخذلهم؟!
ولله الأمر من قبل ومن بعد ولكن أكثر الناس لا يعلمون.


