كلام في “كلام في السياسة” لتوفيق بوعشرين

كلام في “كلام في السياسة” لتوفيق بوعشرين
هوية بريس – د.طارق الحمودي
استمعت إلى حلقة بودكاست الأخيرة للصحافي الأستاذ توفيق بوعشرين وفقه الله المنشورة على حسابه بتاريخ 27 غشت 2025، وقد تحدث فيها عن مسألتين، عن صراع الأخوين البوتشيشيين على الزعامة الروحية والمالية في الزاوية البوتشيشية، وعن ترامب وسياسته الدولية، ولي على الحلقة ملاحظات كثيرة، وليس يهمني الآن منها موضوع صراع الأخوين البوتشيشيين على إرث والدهم الروحي والمالي والسر الأكبر ومآل الزاوية البوتشيشية، لكن يهمني “الغلاف الفكري” الذي لف بوعشرين فيه حلقته من “كلام في السياسة“.
البوتشيشية لم تخرِّجهم…بل هم رفعوها
ذكر توفيق بوعشرين عبد السلام ياسين وطه عبد الرحمن وأحمد التوفيق باعتبارهم خريجي الزاوية البوتشيشية، والصحيح أن حالهم وتكوينهم الفكري لم يكن بسبب الزاوية، بل كان مستصحبا عند التحاقهم بالزاوية، فطه عبد الرحمن مثلا كان فيلسوفا، انتقل من الفلسفة الأرسطية إلى الفلسفة العرفانية، وفلسفته العرفانية تلقاها من الكتب والتجربة التفكرية الشخصية، وعبد السلام يسين ذو تكوين تربوي تلقاه في المؤسسات التربوية للدولة، فالزاوية استفادت منهم، فقيل: هذه طريقة ينتمي إليها كبار المفكرين والتربويين والسياسيين، وليسوا هم من استفادوا منها تكوينا فكريا أو تربويا.
الحلاج
عرض بوعشرين الحلاج في صورة جميلة وجليلة، يكاد المتابع يجزم أنها نوع من البروباغندا الفكرية، تشبه تلك التي قام بها مسلسل العاشق (أي الحلاج)، الذي أنتجته شركة إماراتية، فقد جعله زاهدا صادقا عارفا، وأحال على ماسينيون المستشرق الفرنسي صاحب “آلام الحلاج“، وعرض موقف القضاة والفقهاء الذين حاكموه بطريقة مهينة ومحقرة، وملاحظاتي على هذا أن الحلاج كان يرى أن الله تعالى يحل بذاته في صورة ولي صالح وهو يقول مثلا في ديوانه:
سبحان من أظهر ناسوته***سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهرا***في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه**كلحظة الحاجب بالحاجب
ويقول -كما في “الحلاج، الأعمال الكاملة” لقسام محمد عباس-:
كفرت بدين الله والكفر واجب *** لدي وعند المسلمين قبيح»
التصوف الإسلامي…المتأثر بالنصرانية والهندوسية البوذية
صرح توفيق بشيء قد لا يكون انتبه له بعض المتابعين، وهو أنه نبه على أن التصوف الإسلامي سيتأثر بالفكر النصراني والهندوسي البوذي، وهذا صحيح، لكن الطريقة التي نبه بها كانت توحي بأن ذلك التأثر كان إيجابيا، أو قل لم يكن سلبيا، والصحيح أن ذلك التأثر كان الكارثة الكبرى التي أنتجت “الحلاج” و”ابن عربي” و”جلال الرومي“، فمن التصوف الشرقي أخذ هؤلاء، تصوف وحدة الوجود والحلول والاتحاد والسحر والشعوذة والزندقة الهندوسية والإلحاد البوذي، وهذا التصريح عائد على تصريحات أخرى له بالنقض.
الجابري والعقل البياني
ذكر بوعشرين الجابري، وأحال على مجموعته “نقد العقل العربي“، وعرّف سريعا العقل البياني بأنه العقل المعتمد على اللغة والبلاغة، في مقابل العقل العرفاني والعقل البرهاني القائم على العقل الأرسطي، والصحيح أن ما سماه الجابري العقل البياني وجعله أقل من العقل البرهاني هو العقل القرآني الجامع بين البيان اللغوي والبيان البرهاني، وأما ما سماه العقل البرهاني، فهو ما نسبه توفيق لأرسطو، وهذا صحيح، هذا العقل الذي جنى على العقل، ويراجع في هذا كتاب “جناية أرسطو على العقل“.
ترامب والحلفاء الأوروبيون
هل الأوروبيون حلفاء ترامب؟ هكذا عرض بوعشرين العلاقة بين ترامب والأوروبيين، وزعم أن السياسية الأمريكية بيد رجل متناقض متهور سمسار مشاريع مهووس بالمال، وأنه يسهل على زعماء العالم استغفاله بالمال والمديح، وهذا خطأ، فالمشكلة عند كثير من الناس أنهم يقفون عند أسماء رؤساء الدول ولا يتجاوزونهم، بناء على إيمانهم العميق بأن الديمقراطية هي التي أنتجتهم، وأنها هي التي تعطيهم هذه الصلاحيات، والصحيح أن كل هؤلاء الرؤساء هم موظفون على رأس وكالات “دول” غربية وعربية تقوم على رعاية مصالح ومشاريع النظام المالي العالمي، وقد ألفت كتب كثيرة في الكشف عن هذا بعيدا عن التكلف والمبالغة، بل شواهد الأحداث والوثائق كاشفة هذه الحقيقة، ولذلك لا يجوز للمثقف أن ينشغل بالأدنى عن الأعلى، وأنصح الأستاذ توفيق بمراجعة كتاب “المحركات الستة“.
بعد الحرب العالمية الثانية، سلمت وكالة إدارة مشاريع النظام المالي العالمي للولايات المتحدة الأمريكية، وتحولت الدول الأوروبية إلى وكلاء صغار تابعين للوكيل الأكبر، ودلالة جلسة بعض قادتهم أمام ترامب كافية.
ترامب والصين
تعد العلاقة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية من أخطر العلاقات التاريخية الكبرى، فبعد الثورة الفكرية الصينية، انتقلت الصين إلى عالم “الرأسمالية” بعد أن نالتها بركة النظام العالمي المالي العالي متعدد الرؤوس، وصارت الصين وكيلة لبعض رؤوسه، ومن يطلع على الرسالة التي أرسلها أحد كبار القادة السياسيين الصينيين إلى تيودور هرتزل الصهيوني يفهم جيدا ما أقصد، ولذلك يعد الصراع الأمريكي الصيني صراع نفوذ وتوازن في وقت واحد، فاقتصاد الدولتين متشابك متداخل، ولذلك، لعبة النفوذ بينهما لعبة معقدة وخطيرة جدا.
ترامب وروسيا
لخص ميخاييل غورباتشوف بدقة علاقة روسيا بالولايات المتحدة الأمريكية في كلمة له منشورة ضمن برنامج وثائقي عن قصة احتلال روسيا لأفغانستان بعنوان: “Afghanistan, la Guerre qui a Changé le ” من إخراج ” Monde Réalisateur : Gulya Mirzoeva “، في قوله : «الولايات المتحدة الأمريكية كانوا حلفاءنا الأساس وخصومنا الأساس»، ولا يزالان كذلك، وتغييب هذا عن ناظر القارئ للحرب الروسية الأوكرانية سبب رئيس في توهم التناقض في موقف ترامب، إن كان له موقف أصلا!
ترامب ونتنياهو
لا يزال كثير من الناس يعتقدون أن دور الولايات المتحدة الأمريكية في الأزمة “العربية الإسرائيلية” كما يسمونها هو دور الوسيط، فيتحدثون عن تأثير بيبي على ترامب، والصحيح، أن دويلة إسرائيل ثكنة عسكرية كبيرة متطورة، تحرس مصالح النظام المالي العالمي في شقه الصهيوصليبي تحت إمرة الوكيل الأكبر الأمريكي، وعدم الانتباه لهذا جعل أمثال توفيق يقع في سوء تصور، فسوء حكم.
خليط من الصوفية
ذكر توفيق أسماء مجموعة من الصوفية والمتصوفة في سياق واحد، الجنيد وبنمشيش والحلاج وابن عربي، وزاد عليهم الحسن البصري الذي لم يكن صوفيا، والصحيح، أن الجنيد يمثل أسلوبا قديما في التصوف قريب جدا من الكتاب والسنة، وأما الحلاج وابن عربي وابن الفارض والرومي وغيرهم فيمثلون تصوفا فلسفيا معجونا بالإلحاد والزندقة الشرقية الهندية والفارسية واليهودية والنصرانية.
الصحفي المطلع…والتكوين فكري
أختم هذه الملاحظات بنصيحة أخوية للأستاذ توفيق بوعشرين وفقه الله، وهي أنه علينا جميعا أن نحاول سد كل خلل في “قواعد البيانات” عندنا، وأن نكون حريصين على تجديدها دائما كمّا ونوعا، وأنه علينا أيضا أن نسعى إلى تطوير قدراتنا في العرض والتحليل والنقد، وأن لا نستعجل في عرض ما عندنا إلا بعد المراجعة الدقيقة، ولو عرض المحتوى على متخصص قبل النشر فسيكون ذلك أرقى وأقوى، وقصدي من هذه النصيحة أن يتحسن أداء الأستاذ توفيق للأحسن، فإن المتلقي المغربي يحتاج إلى خطاب رصين وذكي ونقي، وعلى الأستاذ مسؤولية صحفية وأخلاقية ووطنية في هذا، وأعرف أن صدر الأستاذ توفيق سيسع هذه الملاحظات، بل يسعها وغيرها، حسبي هذه الملاحظات، وحسبي أن عرضتها بهذه الطريقة المختصرة الموجزة، فهي في ظني عند الأستاذ توفيق بوعشرين كافية، فالذكي بالإشارة يفهم.



