بعد قرار التوقيف وحملة التضامن.. د.قرطاح يكتب: عن مخاطر المدح والإطراء

08 سبتمبر 2025 16:03

هوية بريس – د.مصطفى قرطاح

تعشق النفس أن تسمع ما يروقها من ثناء ومدح وإطراء، فتصغي إليه مُعْجَبَةً مُتَسَلِّيَةً مُتَمَلِّيَةً، ولا يمنعها من ذلك العلم بما في ذلك المدح من مبالغات قد تصل حد المجازفة، ومغالطات يلتبس فيها الحق بالباطل، بل إنها تميل شيئا فشيئا إلى التصديق وتركن إليه، وإذا لم تُقمع بالحق والعلم انتهى الأمر بصاحبها إلى الاغترار، وإذا تمادت في ذلك تردت إلى دركة العزة بالإثم، فلا تقبل نقدا ولا مراجعة، ولا مواجهة بالحق والحقيقة، وتلك دلائل قوية على خطورة الآفة وقبح مفاسدها.

من أجل مواجهة مخاطر المدح والإطراء ودفعها، ينبغي استحضار جملة من الأسس الشرعية الضامنة للوقاية والممهدة للعلاج.

أول هذه الأسس هو المعرفة بالله تعالى المقتضية الإيمان واليقين الجازم بانكشاف النفس أمام الخالق، فإنه عز وجل العليم الخبير، الرقيب الشهيد، عالم الغيب والشهادة، أخبر عباده أنه ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر:19]، وأنه ﴿مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ﴾ [البروج:20]، ﴿لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ﴾ [غافر:16]. ومن ثم وجب على العبد إذا ما أعجبت نفسه بثناء الناس أن يحدثها بوعيد الله تعالى: ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ [الإسراء:17] وبقول عيسى عليه السلام مخاطبا ربه: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي﴾ [المائدة:116]، فإن هذه المواعظ الربانية تذكره بالحق وبالحقيقة، وهي أن الله تعالى أعلم بطويته، فلا ينخدع بثناء المثنين ومدح المادحين، مهما كثروا ومهما غلوا.

الأساس الثاني هو الإيمان باليوم الآخر، باعتباره اليوم الذي ستُبْلَى فيه السَّرَائِرُ، مما لم يعلمه إلا الله ولم يعلمه الناس، وَسيحصَّلُ مَا فِي الصُّدُورِ، صغيرا أو كبيرا، مجردا من كل مدح وإطراء، فلا يحكم بحسنه أو قبحه إلا الله، ولا يقضي بأهميته وقيمته إلا الميزان الذين سيضعه، ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ﴾ [الأعراف:8].

الأساس الثالث هو علم المرء بحقيقة نفسه، فهو ﴿عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ [القيامة:14]، قال ابن كثير: «هو شهيدٌ على نفسه عالمٌ بما فعله»، فلا يزيف هذا العلم ثناءُ الناس ومدحهم وإطراؤهم، فإن مستند إطرائهم هو ما ظهر لهم دون ما خفي، وأساس مدحهم هو الظن فحسب، والظن لا يغني من الحق شيئا، أما هو فإنه يعلم ما اجترح من الآثام، مما أخفاه عن الناس؛ حياء أو حرصا على سمعة طيبة وسيرة حسنة.

بمجموع ما تقدم، تتضح أهمية نعمة الستر ووجوب تقديرها وشكرها، والحرص على المحافظة عليها، فما قام مدح الناس للمرء إلا لأن الله تعالى أظهر لهم محاسنه وستر عنهم مساوئه، ولو رفع ستره عن عبده لاتضحت حقيقته أمام الخلق، و لانقلبت أحكامهم نحوه، فأغلب الناس لا يستوعبون أن يخلط المرء الحسن بالسيء، ولا ينصفون في الحكم، ولا يقدرون أن المحسن من غلب خيره على شره وليس من تجرد من المعصية وعصم منها…

فاللهم أدم علينا سترك في الدينا والآخرة، وأصلح سريرتنا وعلانيتنا، واجعل سريرتنا خيرا من علانيتنا، واجعل علانيتنا صالحة، إنك غفور حليم، والحمد لله رب العالمين.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
13°
19°
السبت
19°
أحد
19°
الإثنين
20°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة